في العادة، تنشغل وسائل التواصل في العراق يوم الثاني من آب، سنويا، باستذكار حماقة صدام باجتياح دولة الكويت وما ترتب على ذلك من تداعيات خطيرة ومؤلمة قادت الى فرض حصار اقتصادي تسبب بمعاناة إنسانية كبرى استمرت 13 عشر عاما، خسر فيها العراق الكثير من إمكانياته وقدراته البشرية والمادية والأمنية وادى الى تنازلات سيادية مذلة بعد هزيمة صدام في حرب الكويت، وكان من المتوقع ان يكون استذكار هذه الحماقة أكبر هذه السنة نظرا للاهتمام الشعبي والسياسي بقضية خور عبدالله الذي تنازل صدام وعبر قرارات أممية عن حقوق العراق فيه، لكن كل ذلك لم يحدث.
لقد وضع الصداميون خطة إعلامية بسيطة تعتمد على سذاجة البعض وحسد البعض وغضب كثير من المواطنين بسبب المشاكل الخدمية من أجل حرف الاهتمام العام وتشتيت الأنظار عن يوم الكارثة التي مازال العراق يعاني من تبعاتها، اذ قامت الصفحات والحسابات التابعة لخميس الخنجر بنشر فيديو قديم لمواطن ممتعض من الهدية التي استلمها من رئاسة الجمهورية لأنها لم تكن مسدسا كما توقع او كما تربى في أحضان نظام قمعي يهدي المسدسات لمواليه وهو نهج اتبعه بعض الساسة والمسؤولين بعد عام 2003 في تقليد بائس للنظام الصدامي، وبذلك قدم الخنجر هدية كبرى للصداميين.
نشر الفيديو على نطاق واسع مدروس لتحقيق عدة أهداف، منها تغييب الاهتمام بذكرى اجتياح الكويت وقضية خور عبدالله، وكذلك التمهيد لحملة شرسة تطالب باقصاء الكرد عن منصب رئاسة الجمهورية بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، وهو هدف غير مخفي وقد أعلنه اكثر من سياسي ممن يتبنون إرث صدام في إدارة موقع الرئاسة ويحلمون بإعادة ثقافة المسدسات فهم لا يقتنعون بالهدايا الرمزية والبسيطة بل يريدون ولاء مغموسا بالقتل والدم.
المؤسف، ان بعض العراقيين الذين دعموا الفيديو كانوا يعانون أمورا كثيرة تستحق الانفعال والغضب أكثر من هدية الرئاسة البسيطة، كانوا مثلا يعيشون بلا كهرباء في ظهيرة لاهبة، وانهار القرى نضبت مياهها، وتحاصرهم النفايات، والبطالة تعرقل حياة أبنائهم، ولديهم برلمان غائب يعجز عن عقد جلسة عادية، وحكومة تفشل في تقديم موازنة وبلادهم تتعرض للانتهاكات العسكرية التركية، وعشرات المشاكل المصيرية، لكنهم فضلوا في النهاية صب غضبهم على قنينة زيت وقنينة دبس رمان والتعاطف مع شخص هو مشروع قاتل كان يتمنى الحصول على مسدس، لأنه يعرف ان هناك في بلادنا من يوزع المسدسات لأهداف انتخابية ويشجع المواطنين على قتل بعضهم البعض، ويريد من رئاسة الجمهورية الاشتراك في هذه المهزلة.
قيل إن بغداد لم تعد ترحّب بالوفود القادمة من أربيل.
لكن الحقيقة أعمق من ذلك.
فما أُغلق لم يكن مجرد بابٍ إداري، بل مساحة تفاهم كانت تُبقي العلاقة حيّة، ولو على أجهزة التنفس الاصطناعي.
منذ 2003، لم تُبْن العلاقة بين المركز والإقليم على أرض صلبة.
بل تأسست على “التفاهمات المؤقتة”، تلك التي تُكتب بالحبر السياسي وتُمحى بالماء المتقلّب للظروف.
ولم يكن هناك عقد شراكة طويل الأمد، بل تبادل مصالح مرحلي، فيه الكثير من الحذر… والقليل من الثقة.
الوفود التي اعتادت أن تطير من أربيل إلى بغداد كانت تحمل معها أكثر من ملف…
تحمل أملًا هشًّا بأن اللقاء قد يغيّر شيئًا، أو يُخفف وطأة الأزمة، أو يفتح نافذة بعد أن أُغلقت الأبواب.
لكن بغداد تغيّرت.
لم تَعُد تهتم بما يُقال خلف الطاولات، بل بما يُسلّم على الورق.
صارت تنظر للملف الكردي كما ينظر المحاسب إلى ميزانية ناقصة:
“أين الإيرادات؟ وأين توقيع الخزينة؟”
الرد غير المُعلن: “لا ترسلوا وفوداً… أرسلوا جداول.”
ولا بيانات سياسية، ولا شروحات إعلامية، بل كشوفات حساب لا تحتاج إلى مترجم سياسي.
في أربيل، لم يكن الاستياء خفياً.
فحين يلتزم الإقليم بضخ النفط، ثم لا تصله المستحقات كاملة،
وعندما تُربط الرواتب بتقارير لجنة مالية اتحادية،
ويُعامل كأن لا وجود لخصوصية أو تعقيد،
يبدأ شعور “الخسارة بدون مقابل” بالتكاثر داخل القرار الكردي.
السؤال الأهم ليس إن كانت بغداد ترفض الحوار، بل:
هل ما زالت هناك قناعة لدى الطرفين بأن هذه العلاقة تستحق أن تُنقذ؟
بغداد لا تريد مناقشة التفاصيل، بل تنفيذ القانون كما تراه هي.
وأربيل لم تعُد تملك الوقت الكافي لإعادة التفاوض في كل مرة.
النتيجة؟
رجل في دهوك ينتظر راتبه منذ شهرين،
وامرأة في السليمانية تسأل في السوق: “هل صرفوا الرواتب؟”
وفي مكان آخر، تُكتب تقارير تُقيّم الأداء المالي للإقليم وكأنه دائرة صغيرة في دولة كبيرة، لا كيانًا سياسيًا له تاريخ معقد.
لكن ما يغيب عن هذه المقاربة هو أن العلاقة بين أربيل وبغداد لم تكن يوماً علاقة رقمية.
بل كانت سياسية، مشوبة بالعاطفة أحياناً، والمجاملات في أحيان أكثر.
حين يُقطع الحوار، حتى وإن كان شكليًا،
وحين يُدار ملف بهذا الحجم عن طريق البريد الإلكتروني والتواقيع فقط،
فذاك يعني أننا لم نعد في مرحلة تفاهم، بل في مرحلة فرض قواعد.
هل تقبل أربيل أن تتحول إلى تابع إداري؟
وهل تفهم بغداد أن الفيدرالية ليست ملفًا ماليًا بل فلسفة حُكم؟
هذا ليس صراع أرقام، بل صراع على طريقة فهم الدولة.
والخطر الأكبر ليس في تأخر الرواتب، بل في فقدان الثقة…
لأن الرواتب قد تُصرف لاحقاً، لكن الثقة حين تُفقد لا تُسترد بسهولة.
الوفود كانت تحاول أن تُبقي الخيط ممدودًا،
حتى لو كان واهنًا.
واليوم، قُطع الخيط.
فمَن سيعيد وصله؟
ومَن يملك المفتاح الجديد… إن كان المفتاح قد فُقد بالفعل؟
أنا خاون القرداغي، أجريت الحوارات عندما كانت الأبواب مفتوحة، وأحلّل الآن حين أُغلقت وبدأت تُدار الملفات من خلف الزجاج المعتم للعقل المركزي
في خطوة عكست ثقل العراق السياسي والبيئي، شارك فخامة رئيس الجمهورية الدكتور عبداللطيف جمال رشيد في مؤتمر الأمم المتحدة الثالث للمحيطات، المنعقد في مدينة نيس الفرنسية، ليضع العراق في صدارة الدول الساعية إلى بناء شراكات دولية لمواجهة التغير المناخي وأزمات المياه والبيئة.
ورغم بعض الانتقادات السطحية التي طالت المشاركة بحجة أن العراق لا يملك سواحل بحرية، جاءت كلمة الرئيس لتؤكد عكس ذلك وأن أصدق الأقوال ما صدّقته الأفعال، وأن العراق المعني مباشرةً بأزمة المياه والتصحر، يمتلك رؤية بيئية ناضجة، وخبرة فنية تؤهله للعب دور ريادي في رسم السياسات الدولية لحماية البيئة والمناخ.
الرئيس العراقي لم يذهب إلى نيس بصفة بروتوكولية شكلية، بل حمل معه خلفيته العميقة في قضايا المياه والموارد الطبيعية، وتجربته الطويلة التي تتجاوز حدود العراق، ليُصيغ خطابا عقلانيا حازما، يُعلي من شأن الشراكة الدولية ويضع العراق في قلب الرؤية الكونية للمياه والمناخ.
لقد أكد الدكتور عبداللطيف رشيد في كلمته امام المؤتمر أن الموارد المائية – بما فيها المحيطات – لم تعد مجرد ملف بيئي، بل قضية إنسانية وأمنية وتنموية ومشددا على أن أمن المحيطات بات مسألة أمن دولي، تمسّ حتى الدول غير الساحلية، بسبب ارتباطها بمسارات التلوث والتغير المناخي وارتفاع درجات حرارة المياه وتفاقم ظاهرة تحمض المحيطات.
لقد أشار رئيس الجمهورية إلى أن العراق يعاني من انحسار كبير في المياه بسبب التغير المناخي وعدم وجود سياسات إدارية عادلة للأنهار العابرة للحدود، مما أدى إلى النزوح الداخلي، وتراجع مساهمة الزراعة في الناتج المحلي.
وهنا قدم فخامته مقترحا واقعيا بالدعوة إلى اتفاق عالمي لحماية المحيطات يستند إلى اتفاقية أعالي البحار، وإلى تعزيز التمويل المستدام والتكامل المؤسسي بين وزارات البيئة والمياه والاقتصاد الأزرق، إلى جانب تطوير إدارة المياه في الأحواض المشتركة والبحار المغلقة.
رجل الماء في قضايا المياه
ماينبغي ملاحظته هنا انه ليست مصادفة أن يتحدث رئيس جمهورية العراق في مؤتمر المحيطات بلغة علمية دقيقة ورؤية استراتيجية ناضجة حيث ان فخامته ليس طارئا على هذا الملف، بل يُعرف في الأوساط الأكاديمية والتنفيذية بـ”رجل الماء”، لما له من باع طويل في إدارة ملف الموارد المائية على الصعيدين الوطني والدولي.
الدكتور عبداللطيف رشيد يحمل درجة الدكتوراه في الهندسة من جامعة مانشستر البريطانية، وتولى مناصب هندسية واستشارية بارزة في مجال المياه والري والسدود. وهو مؤسس وعضو ناشط في عدد من الهيئات الدولية المتخصصة في إدارة المياه العابرة للحدود، وقد عمل لسنوات ضمن منظمات أممية ومنظمات غير حكومية متخصصة في التنمية والبيئة.
صوت علمي مسؤول
خلال توليه وزارة الموارد المائية في العراق لسنوات حرجة (2003–2010)، وضع أسسا لسياسات مائية وطنية، وشارك في مفاوضات استراتيجية مع دول الجوار، كما أشرف على مشاريع كبرى لصيانة وتحسين البنية التحتية المائية وله كتب وأبحاث علمية منشورة في موضوعات المياه، التغير المناخي، إدارة الأحواض النهرية، واستخدام التكنولوجيا في الري الحديث.
هذه الخلفية العلمية والميدانية هي ما جعلت مشاركته في مؤتمر نيس ذات صدقية خاصة، وأضفت على خطابه وزنا نوعيا، دفع العديد من المراقبين الدوليين إلى اعتباره صوتا علميا مسؤولا وسط الخطابات السياسية العامة.
انطلاقا من هذه الحقائق يمكن القول ان مشاركة العراق كانت اثبات بأن لدى هذا البلد رؤية مهمة وفعالة، تنبع من معاناة واقعية وخبرة تقنية عميقة، وأنه شريك مسؤول في الجهد العالمي لمواجهة التحديات البيئية الكبرى وان حضور فخامة الرئيس دليل على ان مشاركة العراق ليست مجرد حضور رمزي في محفل دولي، بل هي مبعث فخر لكل من يدرك أن قضايا المياه والمناخ لم تعد محصورة بجغرافيا البحار والمحيطات، بل تشمل مصائر الشعوب ومستقبلها.
لقد أثبتت طروحات فخامة رئيس الجمهورية، أن للعراق رؤية ناضجة وفعّالة في إدارة الملف البيئي والمائي على المستويين الإقليمي والدولي، وأنه قادر على الإسهام في صياغة حلول شاملة لقضايا تمسّ الإنسانية بأسرها وكلمة فخامته لم تكتفِ بتشخيص التحديات، بل قدّمت مبادرات واقعية وخطوات مقترحة لتعزيز التعاون العالمي، وبناء شراكات بيئية واقتصادية متعددة الأطراف، تعكس إيمان العراق العميق بأهمية التضامن الدولي.
ومن نيس، وجه العراق رسالة واضحة للعالم: لسنا مجرد ضحايا للتغير المناخي، بل شركاء في مواجهته، وفي بناء مستقبل آمن بيئيًا وإنسانيًا.
كلمة العراق في مؤتمر نيس لم تكن دفاعا عن الحضور، بل دليلاً على الفعل السياسي البيئي المسؤول، ورسالة إلى المجتمع الدولي أن العراق يريد أن يكون شريكا حقيقيا في رسم سياسات الكوكب البيئية، وأن النهج التشاركي الذي دعا إليه الرئيس العراقي، يعكس نضجا سياسيا واخلاقيا لا بد أن يُحتذى.
في كل الأحوال، لن تجد عراقيًا واحدًا مهتمًا باستقرار البلاد وتعايش العباد يفرحه ما يحدث من أزمات وتوترات، خصوصًا عندما تقع بين قوى سياسية عراقية، فكيف إذا كانت بين الدولة والمجتمع!.
إن التوترات التي تسود الآن بين بغداد وإقليم كردستان، بسبب قطع رواتب موظفي الإقليم مجددًا من قبل وزارة المالية الاتحادية، تعيد إلى الواجهة انعدام الثقة بشروط استمرار النظام الاتحادي في البلاد، والمسؤوليات المترتبة عليه والواقعة على عاتق الطرفين.
صحيح أننا نعلم أن حكومة إقليم كردستان ليست ملتزمة تمامًا بإرسال الواردات النفطية وغير النفطية إلى بغداد، ونحن هنا في الإقليم ننتقد كبار المسؤولين على هذا التقصير، بل نغالي أحيانًا في إلقاء اللوم عليهم. ومع ذلك، فإن بغداد أيضًا تتحمل كامل المسؤولية عن أي قرار يؤدي إلى تأزيم الموقف بدلًا من اللجوء إلى الحوار الوطني، والإداري، والفني السليم لحل المعضلات. والأسوأ من ذلك هو التمسك بعقوبة جماعية تطال جميع موظفي الإقليم بعقلية الضغط على أربيل لإرغامها على الالتزام.
المشكلة هنا تكمن دائمًا في غياب الخشية من إيذاء المواطن ومعاقبته تحت ذرائع سياسية أو إدارية، وليس بمنطق إدارة الدولة. يمكن لبغداد أن تعاقب المسؤولين في الإقليم بأي وسيلة ممكنة وقانونية نتيجة أي خرق إداري، أما معاقبة المواطن فليس من حقها، ولا تشاطرها في ذلك لا قرارات المحكمة الاتحادية ولا نصوص الدستور العراقي.
ولا حاجة هنا لأن نكرر أننا نصرخ منذ أكثر من عامين ونقول: لا تعاقبوا من لا ذنب لهم فيما يحدث. فقد انفجر الشارع الكردي أكثر من مرة في وجه حكومة الإقليم، ونُظّمت تظاهرات عديدة لإيصال رسالة واضحة: لا للمزيد من التوتر مع بغداد، ولا لتسييس حق الموظف المواطن.
وعليه، فإن على الحكومة في بغداد ألا تقع في الفخ ذاته، لا سيما ونحن على أبواب عيد الأضحى المبارك، والناس هنا يتطلعون إلى تلبية احتياجاتهم الأساسية.
قيل لي ذات مساء:
كل شيء في العراق قابل للموت… الكهرباء، الماء، الرواتب، التعليم، الصحة، العدالة، حتى الأمل نفسه… لكن شيئًا واحدًا بقي حيًا، لم يذبل، لم ينهزم: الغيرة العراقية.
تأملت العبارة. ظننتها مبالغة أول الأمر، حتى وقفتُ على معناها في تفاصيل الناس… في عيون البسطاء، في تصرفات “الما عدهم غير شرفهم”، في قصص لا تروى على الشاشات ولكنها تعيش في الأزقة وبين الجدران.
هل تريد دليلاً؟
خذ ما جرى في الموصل بعد تحريرها. مدينة مدمرة، ناسها مهجرون، وقلوبهم مكسورة. ومع ذلك، عاد الناس ليبنوا بيوتهم بأيديهم. لا منظمة دولية، لا قرض حكومي، لا وعد سياسي. فقط شرفهم، وغيرتهم، و”ما نقبل أحد يشوف بيتنا خرابة”.
شاب في العشرين، باع دراجته ليساعد أباه في بناء غرفة تسكن فيها أمه. لم يسأل عن الدولة، سأل عن “الستر”.
في البصرة، حين يُغرقها الإهمال ويُقتل شبابها برصاص “طائش لا يُحاسب”، نجد أهلها يغسلون دم أبناءهم بالدموع ويصرّون على دفنهم بكرامة. ثم في اليوم التالي، تجد الأم الثكلى تطبخ للمشيعين وتقول “ما أريد أحد يحچي علينا”.
أيعقل أن يبقى هذا النوع من الكرامة حيًا وسط الخراب؟ نعم… لأن الغيرة لا تموت.
في كربلاء، حين اندلعت الحرائق في بعض الفنادق خلال الزيارات، هرع الناس ليخرجوا الزوار، بعضهم دخل بغير تردد وسط النار. لم يفكر بنفسه، فكر بـ”حرمة الضيف”، بـ”ما يصير نخلي أحد يحترگ وإحنە نشوف”.
في النجف، حين أُسعف طفل سوري لاجئ مصاب بالسرطان إلى مستشفى حكومي، لم يسأله أحد عن جنسيته. الطبيب العراقي قال: “عندي غيرة، مثل ما ما أقبل على ابني، ما أقبل على هذا الطفل”.
في بغداد، قبل أشهر فقط، احترقت سيارة أحد المواطنين أمام أعين الناس. لا أحد عرفه، لا أحد سأل عن مذهبه أو منطقته، لكن شيئًا في دواخل الشباب دفعهم ليقفوا بجواره.
ما هي؟ إنها الغيرة العراقية.
تجمّعوا حوله، وجمعوا له مبلغًا محترمًا من المال ليسدّ أول صدمة، لا أكثر. لم يسأله أحد: “أنت منو؟” بل قالوا: “أنت عراقي… وتعبك ما يحترگ وحدك”.
وأنا – خاون القرداغي – لا أنقل حكايات الآخرين فقط.
في طوزخورماتو، اشتريت يومًا تمرًا من أحد الباعة، وقلت له بصوت عفوي: “أريد سلة طيبة، هاي لأمي”.
ما إن سمع كلمة “لأمي”، حتى قال دون تفكير:
“والله هاي هدية، لا تاخذ مني شي… هاي الغيرة يا أخي”.
هذه الغيرة لا تُدرّس في المدارس، ولا تخرج من الدساتير، بل تنبع من الطبع، من الدم، من اللاوعي العراقي العميق.
الغيرة العراقية ليست صفةً طارئة، بل مركّب من الفطرة والتاريخ. هي امتداد لزمن كانت العشيرة تموت إذا أُهين اسمها، والزلمة يُذبح نفسه ولا يُقال عنه “ما عنده غيرة”.
نحن من قال فينا الشاعر:
“الغيرة إلنا والكرم من طبعنا
والموت نختاره ولا حد يذلنا”
نعم، تموت مشاريعنا، وتُنهب مواردنا، وتغيب العدالة، ويهرب الأطباء، وتُقمع الصحافة…
لكن الغيرة العراقية لا تموت، لأنها ليست من مؤسسات الدولة، بل من تراب الأرض.
هي التي تجعل أبًا يعيل أسرته من عرقه ويرفض السرقة حتى لو جاع،
وأمًا ترفض أن تخرج من بيتها دون “ستر”،
وشابًا يعمل 18 ساعة في اليوم كي لا يُقال “عائلته محتاجة”،
وبنتًا تتخرج بتفوق لتقول لأبيها “تعبك ما راح هدر”.
أنا لا أزعم أن العراقيين وحدهم في العالم يمتلكون الغيرة…
لكنني، خلال أكثر من عشرين عامًا من التنقل والسفر والحوار، لم أرَ شعبًا يغلي بها كما يغلي بها العراقي.
كرديًا كان أم عربيًا، شيعيًا أو سنيًا، مسلمًا أو مسيحيًا… حين تُمسّ كرامته، يتغير صوته، ينهض.
أنا خاون القرداغي، منذ أكثر من عقدين وأنا أجري الحوارات مع السياسيين، أستمع وأحلل…
لكنني أؤمن أن الغيرة العراقية ليست في تصريحاتهم، بل في تفاصيل الناس العاديين.
هؤلاء وحدهم… من يملكون ما لا تموت به الأوطان
الانتخابات في العراق لا تشبه الانتخابات في أي مكان آخر. ليست مجرد اقتراع، ولا اختباراً ديمقراطياً دورياً، بل أشبه ما تكون بمسرح معقّد: الجمهور يعرف النهاية، لكن لا أحد يغادر القاعة.
يُقال إن المشاركة تصنع التغيير. عبارة مألوفة، تَرد في كل حملة إعلامية، وتُطبع على كل بوستر انتخابي. لكن ماذا عن المقاطعة؟ ماذا تفعل إذا كان نصف الشعب يقرر ألا يذهب إلى مراكز الاقتراع؟ هل تغيّر أيضاً؟ أم تفتح الباب للفراغ، للبدائل الأخطر، أو للشرعية المصطنعة؟
هذا السؤال ليس جديدًا، لكنه لم يُطرح بجدّية كافية. الكل يتحدث عن “الذهاب للصندوق”، لكن قليل من يسأل: ماذا يحدث حين لا نذهب؟
لنفهم نتائج المقاطعة، علينا أولاً أن نُفرّق: هل هي فعلٌ احتجاجي واعٍ؟ أم ردة فعل يائسة؟ الفرق بين الاثنين، هو الذي يُحدد أثرها.
في انتخابات 2018، نسبة المشاركة كانت أقل من 45% بحسب مفوضية الانتخابات. وفي 2021، ومع كل الوعود والتحسينات، كانت المشاركة حوالي 41%. هذا يعني أن أكثر من نصف الشعب لم يُصوّت. لكن، من تولوا المناصب قالوا إنهم “اختارهم الشعب”، رغم أن الشعب لم يكن هناك.
هنا تظهر أولى نتائج المقاطعة: فقدان التمثيل الحقيقي. صعود قوى لا تعكس غالبية الناس، بل فقط من ذهبوا للصندوق. استمرار المنظومة القائمة دون مساءلة، بحجة أن الناس لا تهتم.
نعم، أحياناً تُخيف المقاطعة السلطة، لكنها لا تهددها فعلاً إلا إذا اقترنت بوعي جمعي، وتحرك مدني منظم، وصوت إعلامي ذكي. حين تتجاوز المقاطعة نسبة 60–70%، تبدأ السلطة في القلق، ليس لأن شرعيتها تنهار واقعياً، بل لأنها تنهار معنوياً وإعلامياً.
في الجزائر، انتخابات 2019 شهدت نسبة مشاركة لم تتجاوز 39%. ظهرت تقارير دولية تقول: “الانتخابات لم تُقنع أحداً”. فجأة، صار حديث الإعلام عن شرعية النظام، لا عن الفائز. وفي لبنان، انتخابات 2022 سجّلت أدنى نسبة مشاركة منذ 2005، وكل القوى التي راهنت على شرعية الصندوق وجدت نفسها تُبرر، لا تحتفل.
ينطبق هذا على العراق أيضاً، لكن بشكل خاص ومعقّد. لأن السلطة هنا لا تخاف من المقاطعة المجردة… بل من المقاطعة الواعية، المنظمة، الصاخبة إعلامياً.
يبقى هناك سؤال أكثر حساسية: هل المقاطعة تُسهّل التزوير؟
الجواب واقعي أكثر منه نظري. كلما قلّ عدد المشاركين، أصبح من الأسهل التلاعب بالنتائج، وتدوير الوجوه، وتضخيم الأصوات الصغيرة لتصبح كبيرة. بل في بعض الحالات، المقاطعة الجماعية تجعل الأقلية تحكم باسم الأغلبية، قانونياً وإعلامياً. يعني: المقاطعة بدون بديل أو مشروع سياسي واضح، تُفسر من السلطة بأنها ضوء أخضر للاستمرار.
من الناحية الأخلاقية، يراها البعض تجريدًا للفاسدين من شرعيتهم الأخلاقية. حين لا يذهب الناس، يُفهم أنهم لا يثقون بالنظام، ولا بالعملية، ولا بالمخرجات. لكن هل تُقرأ هذه الرسالة من الأطراف المعنية؟ غالباً لا. لأن من يعيش داخل المنظومة لا يسمع إلا صدى نفسه.
وفي النهاية، من يخسر؟ الشعب؟ السلطة؟ أم الطبقة الوسطى التي لا تصوّت ولا تخرج إلى الشارع، وتنتظر معجزة؟
الجواب ليس بسيطاً. المقاطعة بلا صوت إعلامي حقيقي تعني صمتاً. والمقاطعة بلا مشروع بديل تعني فراغاً. والمشاركة بلا مساءلة تعني شرعنة للتكرار.
المشاركة قد تُحدِث تغييرًا، لكنها لا تكفي وحدها. والمقاطعة قد تُربك، لكنها لا تصنع بديلاً. التغيير لا يصنعه فقط الذهاب أو الانسحاب، بل الوعي الجماعي الذي يسبق الصندوق ويتجاوزه.
في العراق، لا يكفي أن نُشارك أو نقاطع. يجب أن نسأل دائماً: لماذا؟ وبأي شروط؟ ولمن نعطي شرعيتنا؟
أنا خاون القرداغي، ومنذ أكثر من عقدين وأنا أتابع الانتخابات لا كحدث موسمي، بل كظاهرة اجتماعية وسياسية، أسمع ما لا يُقال، وأحلل ما لا يظهر في الصور. في عالم السياسة، أحيانًا يكون “الغياب” أقوى من الحضور، إذا كان وعيًا، لا هروبًا
الأسد خرج. لم يعد ذلك مجرد حديث في الكواليس، بل واقع سياسي فُرض على الأرض، وأُعلِن عنه بصيغة رسمية، مع إنتقال السلطة إلى رئيس جديد إسمه “أحمد الشرع”، في مشهد بدا هادئاً في ظاهره، لكنه يحمل إرتدادات قادمة في عمق الخريطة السورية.
تغيّر شكل المشهد السوري، لكن المضمون لا يزال معقّداً، ملتبساً، ومفتوحاً على إحتمالات أكبر من مجرد تغيير إسم في رأس السلطة.
لأكثر من عقد، تم إختزال الأزمة السورية بشخص بشار الأسد. في الخطاب، في الإعلام، وفي المعارك. كأنَّ المشكلة تبدأ به وتنتهي عنده. لكن اليوم، بعد أن هرب الأسد من المشهد السياسي، تتكشّف تعقيدات الواقع السوري التي ظلّت مؤجّلة لعقد من الزمن.
ولأكون صريحاً، كثيرون اعتقدوا أن خروج الأسد سيفتح الباب للحلول، لكنّ ما تكشّف حتى الآن يوحي بالعكس: أننا كنا نُقاتل صورة، بينما البُنية بقيت في مكانها.
في الشمال، قسد تطرح مشروعها السياسي بشكل مُعلَن، وتعتبره إطاراً لحل دائم قائم على اللامركزية، مدعومة بإسناد إقليمي ودولي، وتحرص على تقديم نفسها كشريك في مستقبل سوريا لا ككيان منفصل. وعلى الرغم من إتفاقها مع الحكومة السورية الجديدة على الإنخراط في المنظومة العسكرية الموحّدة، بدأت ترتفع أصوات من داخل دمشق تُهدد قسد وتتهمها بالسعي إلى الإنفصال تحت عناوين الفدرالية.
في المقابل، تركيا — التي تُعد أحد أقوى حلفاء أحمد الشرع — لا تُخفي موقفها، بل تُعلن بوضوح رفضها لأي صيغة فدرالية في سوريا، وتُواصل دعم جماعات مسلحة تنشط قرب الحدود وتقصف بين الحين والآخر مواقع حيوية، منها سد تشرين، في رسالة مفادها أن خريطة الشمال لن تُرسم بهدوء.
في الجنوب، لم يكتفِ الدروز برفع صوتهم دفاعاً عن خصوصيتهم السياسية والإجتماعية، بل دخلوا مرحلة الإشتباك المباشر مع الدولة السورية الجديدة. المواجهات التي إندلعت في جرمانا وأشرفية صحنايا لم تعد تُقرأ كمجرد توترات أمنية، بل باتت تعبيراً واضحاً عن تصدّع داخلي في مشهد ما بعد الأسد، وإنهيار توازنات كان يُعتقد أنها مستقرة.
واللافت أن إسرائيل لم تكتفِ بالمراقبة أو الدعم السياسي، بل قصفت القوات السورية الجديدة أكثر من مرة خلال هذه الإشتباكات، في مؤشّر على دخول الصراع مرحلة حساسة تتجاوز الداخل السوري، وتُعيد الجنوب إلى واجهة التصعيد الإقليمي من جديد.
وما يُقلق في كل هذا، أن الرسائل لا تُوجَّه لطرف واحد، بل توزَّع على أطراف عديدة، وكأن الجميع يقرأ نهاية مختلفة لنفس القصة.
وفي خضم هذه المواجهات، تداولت مصادر ميدانية وصحفية صوراً لعناصر من القوات الأمنية التي شاركت في قتال الشوارع ضد المسلحين الدروز في جرمانا وأشرفية صحنايا، وقد ظهرت على أذرع بعضهم شارة تعود لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش، تحديداً على الذراع الأيسر.
الصورة لم تُنكر رسمياً، ولم تُعلّق عليها الحكومة الجديدة، لكن مجرد إنتشارها في هذا التوقيت فتح باباً واسعاً للتساؤلات: هل نحن أمام إختراق داخل أجهزة الدولة؟ أم أمام رسائل مرمّزة من قوى ظلت حاضرة تحت الرماد؟
في كلتا الحالتين، بدا أن ما بعد الأسد ليس أكثر إستقراراً… بل أكثر غموضاً.
في الساحل، العلويون، الذين دفعوا ثمناً باهظاً في سنوات الحرب، لم يعودوا طرفاً صامتاً، بل بدأوا يُطالبون بضمانات تحفظ وجودهم وموقعهم.
وبين كل هذه القوى، تظهر طوائف ومناطق جديدة على الخريطة، لم تكن في المشهد السياسي سابقاً، لكنها ترى أن لحظة ما بعد الأسد، لحظة مناسبة للمطالبة بالتمثيل، أو حتى بالإستقلال في القرار.
في ظل هذه التحولات، تبدو سوريا مُقبلة على مرحلة تُعاد فيها صياغة النفوذ، والهوية، ومركز القرار.
لم يعد السؤال: من يحكم دمشق؟
بل: من يتحدث بإسم سوريا؟
ومن يملك مفاتيح وحدتها؟
ومن يُمسك بخيوطها في ظل هذا التعدد والتداخل؟
من إستطاع أن يُبعد الأسد، إن أراد فعلاً إستعادة سوريا، عليه أن يتعامل مع واقع جديد يتشكل على الأرض: قوى أمر واقع، ومشاريع متنافسة، وخطابات لم تعد تنطلق من دمشق وحدها.
المشهد لم ينتهِ بخروج الأسد، بل بدأ صراع التعريفات: من هو صاحب الشرعية؟ من يُمثل الدولة؟ ومن يتحدث بإسم الشعب؟
إنها ليست معركة مقعد شاغر، بل معركة سرديات متناقضة، ومشاريع مُتزاحمة، وذاكرة مثقلة بالدم والإنقسام.
في سوريا ما بعد الأسد، لا تُكافأ النوايا، بل تُختبر القدرة على قراءة الخريطة الجديدة… والتعامل معها دون أوهام.
وليس من عادة الخرائط أن تُهدي نفسها لأحد.
أنا خاون القرداغي، منذ أكثر من عقدين وأنا أُجري الحوارات مع السياسيين العرب والكورد، باللغتين العربية والكردية، أستمع لما يقولونه، وأقرأ ما لا يقولونه. واليوم… سوريا تقول الكثير، لكن بلغات مختلفة.
تحولت وسائل الاعلام الرسمي العراقي الى مجرد مؤسسات دعاية لرئيس مجلس الوزراء محمد السوداني، وتتزايد شكاوى وانتقادات أصحاب الرأي والكتاب من هيمنة اتجاه واحد على اعلام الدولة الذي تمثله شبكة الاعلام العراقي (قنوات العراقية، جريدة الصباح، وكالة الانباء....) بضغط من السوداني وحاشيته الذين لا يطيقون سماع أي صوت غير صوتي التطبيل والتزمير للمنجزات الوهمية.
لم يحدث منذ عام 2003 ان تعرض الاعلام العراقي، الرسمي وغير الرسمي الى حالة من الاستغلال الحكومي والمطاردة والقمع والاسكات والشراء كما يحدث اليوم، ويتجاهل السوداني وحاشيته ان الاعلام الرسمي هو اعلام الدولة وليس اعلام مجلس الوزراء، واعلام الدولة مكلف بالتغطية المتوازنة والعادلة لنشاطات الدولة وكذلك فسح المجال للأصوات الناقدة والمعارضة مادامت تتحرك ضمن الدستور والقوانين واللياقة الإعلامية، ويمنح مساحة كبيرة للمواطن لعرض مطالبه وانتقاداته واعتراضاته، لأن اعلام الدولة ممول من المال العام ويخضع لسلطة مجلس النواب.
لقد استحوذ السوداني على شبكة الاعلام العراقية بطرق غير دستورية ولا قانونية، ابتداء من تشكيل مجلس أمناء للشبكة بدون عرضه للتصويت في البرلمان ثم فرض لون معين من التوجهات واقصاء شخصيات وتوجهات بدرجة دفعت المواطن الى النفور من الاعلام الرسمي والبحث عن بدائل وهو ما يتسبب بهدر المال العام نتيجة الإدارة غير المهنية، وتضييع فرص التواصل بين مؤسسات الدولة والمواطنين وكذلك تقديم صورة جيدة عن النظام السياسي العراقي الذي يسمح لجميع الأصوات بالظهور في الاعلام الرسمي بما يحقق أفضل صور التنوع والتعددية.
ان استيلاء السوداني على الاعلام الرسمي يعيد الى الاذهان صورة الاعلام البعثي الصدامي الذي تتصدر فيه صورة المسؤول واخباره صفحات الجرائد ونشرات الاخبار، وهو نموذج سيء يؤدي غالبا الى نتائج عكسية ومردودات سلبية ليس فقط على الحاكم وانما على موقف الشعب من الدولة ككل بعدما يصل الشعب الى قناعة ان الدولة مختزلة بشخص واحد لا يحقق نتائج جيدة في العمل ولا يتخذ القرارات الصائبة ومع ذلك يريد اقناع المواطنين بأن كل شيء بخير، حتى يندفع المطبلون وراءه الى تزييف الحقائق والعبث حتى بالسياقات المهنية لتحرير الخبر من اجل تضخيم كل ماهو صغير وبهرجة كل ما هو عادي ليتحول الكلام بديلا عن الأفعال والعمل الحقيقي.
لقد أفرغ السوداني شبكة الاعلام من دورها ومضمونها وسلبها ارادتها وافقدها جمهورها وهو يسعى اليوم بشتى الطرق للاستيلاء على الاعلام الخاص عبر الترغيب والتمويل واسكات وملاحقة المعترضين والمنتقدين وهذا دليل على الدكتاتورية والتفرد والنرجسية وحب الذات، وهي كلها صفات لا تنسجم مع النظام الديمقراطي ولا تليق بالحياة المعاصرة، ولذلك يجب إيقاف هذا المنهج التدميري لحرية التعبير.
منذ عام 2005، دخل العراق مرحلة جديدة بعد سنوات طويلة من الحروب والعقوبات والعزلة. كانت الانتخابات الأولى مشهداً استثنائياً: أصابع ملوّنة بالحبر، وجوه تملؤها الآمال، وشعور ثقيل بأن العراق يقف على أعتاب ولادة جديدة. كان التصويت آنذاك أكثر من مجرد إجراء ديمقراطي، كان إعلان حياة بعد الموت، وخطوة نحو استعادة الوطن من ركام الألم.
لكن السنوات اللاحقة أثبتت أن الانتخابات وحدها لا تكفي لتغيير مصير بلد معقد كالعراق. رغم تعاقب أربع دورات انتخابية، ورغم تغيّر الوجوه وتبدل التحالفات، إلا أن البنية العميقة للسلطة بقيت كما هي: شبكة مصالح متداخلة، محاصصة طائفية، وفساد مستشرٍ تحوّل مع الزمن إلى ثقافة أكثر منه حالة طارئة. الوجوه تغيرت مرات، الأحزاب انقسمت وتحالفت وانشقت، لكن نمط إدارة الدولة ظلَّ حبيس المحاصصة لا المحاسبة، ورد الفعل لا التخطيط، والمصالح الضيقة لا المصالح الوطنية.
من 2005 حتى اليوم، لم يحدث تغيير جوهري في طبيعة العلاقة بين المواطن والدولة. بقيت الدولة بالنسبة للكثيرين مصدر وظائف وخدمات مشروطة بالولاءات، لا عقداً اجتماعياً يقوم على الحقوق والواجبات. بقي المواطن يشعر أنه متلقٍ للوعود لا صانع للقرار، مستهلكاً للسلطة لا شريكاً فيها. التعليم لم يتحسن بالشكل المطلوب، الاقتصاد ظل يعتمد على النفط بشكل مقلق، والقضاء لم يتمكن من فرض هيبته الكاملة على الحياة السياسية.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن شيئاً ما تغيّر في الوعي العام. صبر الناس على الواقع لم يعد كما كان، وحدّة النقد في الشارع العراقي أصبحت أعلى وأكثر وعياً. الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت بغداد ومدن الجنوب كانت إشارة على أن جيلًا جديدًا وُلد من رحم الخيبة، جيل لم يعش طويلاً في ظل الخوف مثلما عاش الآباء. جيل صار يعرف أن صناديق الاقتراع لا تكفي إذا لم تكن مصحوبة بثقافة محاسبة مستمرة، وبقناعة بأن الديمقراطية الحقيقية لا تبدأ ولا تنتهي بيوم التصويت، بل تمتد إلى كل يوم يعيش فيه المواطن حرّاً وكريماً.
التغيير الذي حدث في العراق منذ 2005 لم يكن بالسرعة ولا بالعمق الذي حلم به الناس، لكنه مع ذلك وضع بذرة الوعي الأولي الذي يكبر مع كل خيبة، ومع كل جولة انتخابية لم تحقق المأمول. العراق اليوم، رغم كل آلامه، مختلف عن عراق الأمس: أكثر وعياً بحقه، أشد رفضاً للاستغلال، وأقرب إلى الانفجار من أجل التغيير الحقيقي إذا استمر انسداد الأفق.
الطريق ما زال طويلاً، وربما مليئاً بالخيبات القادمة، لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن العراقيين باتوا يعرفون الطريق، حتى لو تأخر الوصول.
أنا خاون القرداغي، وهذا ما استنتجته بعد سنوات من مراقبة المشهد الانتخابي العراقي
العلاقات العراقية السورية، علاقات إشكالية فيها أكثر من خلاف والكثير من الازمات المتراكمة مثلما فيها الكثير من الضرورات الدافعة للتعاون والتنسيق، لكن الأخطر انها علاقة لا تهم الجهات الحكومية في البلدين فقط، بل هي علاقات لها تداعيات مجتمعية في كل دولة على حدا، ولا مفر من الاعتراف بوجود انقسام شعبي وسياسي في العراق تجاه الحكم في سوريا قبل وبعد سقوط نظام بشار الأسد تصل الى حد الخلاف الطائفي عراقيا، وكذلك الخلاف بين أبناء الطائفة الواحدة.
إن علاقة بمثل هذا التعقيد، ومع التحول الكبير والسريع والصادم في سوريا بحاجة الى تعامل حكومي عراقي دقيق وشفاف، تعامل يقوم بالأساس على الوضوح والمشاركة والنقاش العام والسياسي وصولا الى تقريب وجهات النظر بين مختلف القوى للتوصل الى مخطط يحدد مسار العلاقة، ويكون موضع اجماع في الحد المقبول.
كان من الممكن ترسيم مسار العلاقة مع سوريا الجديدة عبر التداول والحوار بين الرئاسات الأربع (الجمهورية، مجلس الوزراء، البرلمان، القضاء) لتحديد موقف اولي يطرح على القوى السياسية تمهيدا للتوافق عليه، وهذه الخطوات سهلة وواضحة وهي استجابة لروح النظام السياسي وللنص الدستوري وللمصلحة العراقية العليا.
المؤسف ان رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد السوداني تصرف بتفرد عال وعزلة تامة في إدارة هذا الملف بدون تداول حتى مع اقرب داعميه الذين كانوا في نفس الوقت يقاتلون في سوريا منذ سنوات ضد القوى التي امسكت اليوم بالسلطة في سوريا، مثل عصائب أهل الحق ومنظمة بدر وغيرهما، كما لم يتعامل مع هذا الملف الحساس عبر المؤسسات الدبلوماسية العراقية وباستخدام قنوات وزارة الخارجية، ما جعل تصرفاته موضع شك وريبة وتسببت باحراج الدولة العراقية واحراج السوداني نفسه شعبيا وسياسيا، ومن المؤلم ان يسمع العراقيون بمستوى اللوم والتقريع الذي وجهه الاطار التنسيقي للسوداني بعد لقائه الاعتباطي مع الرئيس السوري احمد الشرع.
لقد وضع السوداني كل ملفات الدولة العراقية ومصالحها العليا في جوف ماكنته الدعائية للانتخابات، وهو يعتقد انه قادر على احراج الإطار التنسيقي بوضعه امام الامر الواقع في خطواته الانفرادية مع سوريا كما يعتقد انه سوف يستميل القوى السنية مسبقا لدعم طموحه في البقاء بمنصبه والحصول على دعم قطري تركي، لكن اتضح ان وزن السوداني في العلاقات الدولية لا يساوي شيئا بدليل عدم احترام قطر وسوريا لسرية اللقاء وعرضه بطريقة فضائحية معيبة تمس سيادة وسمعة العراق وتظهر السوداني كفرد أعزل بلا منظومة دبلوماسية ومؤسسية يدير بها شؤون العراق.
خطوة السوداني الانفرادية أدت الى تأزيم وتلويث المناخ السياسي في العراق بالتزامن مع انطلاق الحملات الانتخابية ومن المتوقع ان تكون هذه الخطوة سببا في الانقسام وحتى التصعيد والتأزيم الأمني، وسيكون من الأفضل ان يعتذر السوداني عن خطوته غير المدروسة وعن تفرده وإنعزاليته ويتوقف عن السعي لولاية ثانية، وليتذكر السوداني ان شخصيات تاريخية مثل ونستون تشرشل قائد النصر البريطاني وهلموت كول موحد ألمانيا وقائد طفرتها الاقتصادية، خرجت من الحياة السياسية الى الابد بسبب أخطأ أصغر من فعلته هذه التي هي مجرد حلقة في سلسلة طويلة من اخطائه التي ارتكبها بسبب الغرور والتفرد.
يتم اليوم اضافة سنة جديدة لعمر الصحافة الكوردية، التي تبدأ بصدور الجريدة باللغة الكوردية، واصبحت مناسبة للإعلام الكوردي بأسره، بأدواته المختلفة. يجري في هذه المناسبة عرض الملاحظات والانتقادات كما هي معهودة، ويجري كذلك التقييم للوضع القائم، وبالنسبة لي، رأيت ان اقوم فقط بعرض التصورات النقدية لمشاكل الإعلام الكوردي نفسها، بل من اجل تحقيق إعلام مراقب وفعّال وحِرَفي في اقليم كوردستان، اقوم باقتراح هذه الخطوات، كعلاج مستقبلي لهذا الإعلام:
* العمل للتمييز بين السلطات الثلاثة (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، لأنه هو الشرط المسبق لتقوية هذا الإعلام (ولو كان على سبيل المجاز) في اي مجتمع ودولة.
* السعي للحيلولة دون وجود العوائق المختلفة امام العمل الصحفي (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، الدينيّة، … إلخ).
* العمل على انشاء مؤسسة إعلامية وطنية في اقليم كوردستان، بناءاً على الركنين الاثنين (المهنية - الوطنية)، بنظرة معاصرة.
* تعديل ومراجعة البنود والفقرات التي تنظم قوانين العمل الصحفي في الإقليم، بحيث ينسجم مع روح العصر ومع الحياة الديمقراطية.
* يجب على محاكم الإقليم ان تعمل بموجب القوانين المتعلقة بهذا المجال من ناحية جرائم النشر، بدلاً من أن تلتجئ الى نصوص اخرى.
* العمل على خلق رابطة للتفاهم ولإيجاد علاقة مبنية على المسؤولية المشتركة لدى الطرفين، الاعلام والسلطة الحاكمة في كوردستان العراق.
* على الإعلاميون الموجودون في الاقليم أن يهتموا بجانب الأخلاقيات والمهنية، وأن يعملوا على تطوير مهنتهم، كما ان لإعداد (ميثاق الشرف الصحفي) تأثير خاص في حد ذاته.
* السعي نحو اصلاح المجال التنظيمي النقابي للصحفيين في كوردستان، وجعل (نقابة صحفيي كوردستان) مأوى لجميع الاتجاهات المختلفة الموجودة في فضاء الإعلام الكوردي في الاقليم، بحيث تتسع لجميع الأختلافات بأسرها واستيعابها.
* العمل على تطوير اقسام الاعلام الموجودة في جامعات ومعاهدات الإقليم، من جميع نواحيها.
* العمل على اقامة وتأسيس مركز الاستطلاع الرأي النشطة والعلمية بحيث يتم فيه الاستفسارات بصورة دائمة، من اجل جمع المعلومات الدقيقة وفي فترة مبكرة للغاية، حول تأثير الإعلام الكوردي على الرأي العام وعلى الشارع.
* ينبغي العمل على إنشاء مركز لبحث الإعلام ودراسته، فيقوم باحثوا هذا المجال بالبحوث القيمة والمهمة بصورة مستمرة حول الإعلام الكوردي.
* افتتاح مركز لترجمة البحوث والكتب النادرة في مجال الإعلام، هو احدى الضروريات الاخرى، لكي يستفيد منه صحفيوا الكورد، واولئك الذين لايجيدون الا لغتهم الأصلية (لغةٍ الأم) بشكل خاص.
* افتتاح دورات ضرورية للإعلام في خارج وداخل الإقليم.
* افتتاح الدورات لتعليم اللغات الأجنبية للإعلاميين.
حين تدخل منظمة مثل بوگواش إلى العراق، لا تدخل كضيف رسمي، ولا كمجرد جهة مهتمة بالسلام. تدخل كفكرة، كتجربة عمرها أكثر من نصف قرن، قررت أن تحمي العالم من أخطر ما اخترعه الإنسان: السلاح النووي.
بوگواش ليست مؤتمراً كلاسيكياً، ولا منظمة تنشط على الشاشات. هي هادئة مثل القلق، ومستمرة مثل الخوف من الانفجار الكبير. تأسست في لحظة ندم بعد الحرب العالمية الثانية، حين قرر بعض العلماء أن لا يكرّروا خطأهم. منذ ذلك الوقت، وهي تنسج حواراتها بصمت، بعيداً عن الكاميرات، وفي أماكن قد لا يتوقعها أحد.
أن تصل هذه المنظمة إلى السليمانية، هو بحد ذاته حدث. مدينة تعرف كيف تستقبل الحوار، وتعرف كيف تصغي. هذه ليست مجاملة للمدينة، بل توصيف حقيقي لطبيعتها. جامعات، مقاهي، صحف، جيل يقرأ أكثر مما يتكلم، ويستمع أكثر مما يتباهى. لذلك، كان من الطبيعي أن تبدأ بوگواش من هناك.
ما شدّني شخصياً في هذا المؤتمر، هو الحضور اللافت للدكتور حسين الشهرستاني. رجل يعرف تماماً معنى أن تقول “لا” في زمن الصمت. عالم نووي، رفض أن يكون أداة، ودفع ثمن ذلك. وجوده في مؤتمر مثل هذا، يعطيه عمقاً لا يمكن تجاهله. لأن الحديث عن نزع السلاح ليس مجرد نظرية بالنسبة له، بل قرار اتخذه منذ زمن بعيد، واستمر عليه.
الجميل في الأمر، أن اللقاء لم يتوقف في السليمانية. بل انتقل المشاركون إلى حلبجة. المدينة التي تعرف السلاح الكيمياوي عن قرب، تعرفه في الوجوه، وفي الذاكرة، وفي الحكايات التي لا تموت. أن تُطرح فكرة السلام في مدينة مجروحة مثل حلبجة، هذا ليس تنظيراً. هذه مواجهة صادقة بين من عاش الكارثة، ومن يريد أن يمنع تكرارها.
أنا لا أتوهم أن مؤتمراً مثل بوگواش سيمنع الحروب المقبلة، ولا أتصور أن النقاشات وحدها كافية. لكن ما يحدث هنا هو بداية مختلفة. بداية من العراق، من مدينة لم تعد تكتفي بأن تُذكر في التقارير الأمنية، بل تحاول أن تكتب سطرًا في التقارير الإنسانية.
السؤال ليس: هل ستتغير المنطقة؟ بل: هل ما زال هناك متسع للعقل في هذه الجغرافيا المعقدة؟
بوگواش جاءت لتقول: نعم… ولو بصوت منخفض.
أنا خاون القرداغي، وأكتب لأني أؤمن أن العقل، مهما خفت صوته، يبقى أقوى من كل الضجيج
مرة أخرى يثبت محمد السوداني قلة خبرته السياسية وانعدام كفاءته رغم السنوات الطويلة التي قضاها في قمة المسؤولية، اذ لم يكن لائقا به ولا بالعراق التنسيقي ان يسافر خلسة الى قطر للقاء احمد الشرع رئيس النظام الجديد في سوريا، ويخفي الحدث ليومين ليتفاجئ بصورة تبدو مختطفة وهو محاط بأمير قطر تميم وبالشرع.
هل تعرض السوداني لخدعة قطرية؟ ام ان اتباع قطر مثل خميس الخنجر وعوده بشيء فهرول لتحقيق طلبهم بلقاء الشرع، ليمنح الخنجر قطعة كبيرة من هيبة وسيادة العراق مثلما يمنحه الأراضي المميزة في قلب بغداد.
المؤكد ان السوداني هو من خدع نفسه كما يفعل كل مرة يعتقد فيها انه شخصية سياسية بارعة وقادر على القيام بادوار متميزة ولا يريد لأحد من القيادات السياسية ولا حتى من المسؤولين الحكوميين والدبلوماسين مشاركته فيما يعتبره نصرا وانجازا.
ان فتح أبواب الحوار والتنسيق وربما التعاون بين العراق وسوريا في عهدها الجديد أمر طبيعي ومتوقع مع الاخذ بنظر الاعتبار بعض التحوطات والملاحظات لكن العلاقات العراقية السورية خاصة، والعلاقات الخارجية بشكل عام ليست شأنا شخصيا ولا صفقة خاصة برئيس مجلس الوزراء ولا بأي سياسي، بل هي شأن الدولة العراقية ويجب ان تدار عبر القنوات الرسمية المختصة، وكل خطوة فيها مكشوفة للقوى السياسية والبرلمان وللرأي العام.
اعتقد السوداني ان فتح الطريق امام الشرع ونظامه عبر البوابة القطرية المتحالفة مع تركيا سيكون نصرا سياسيا شخصيا يستخدمه في حملته للبقاء في المنصب وهو يتوهم ان القوى السنية القريبة من قطر وتركيا سوف ترجح كفته، لكن هذه الحسابات خاطئة تماما، لكن هل يعرف السوداني ان الجميع تخلى عنه عندما تم تسريب صورته متلبسا بخرق سيادي ومحاصرا بين فكي تحالف دموي يكرهه العراقيون؟!.
لقد أساء السوداني لنفسه عندما تسلل خفية الى الدوحة وترك المبادرة للحكومة السورية كي تفضح اجتماعه وتنشر الصورة، كما اساء للعراق بهذا اللقاء، وعلى الاطار التنسيقي والبرلمان والرأي العام مساءلة السوداني عن استخفافه بالدولة العراقية وتجاهله للاجماع الوطني في القضايا الحساسة، بعدما كرر اللقاءات الفردية الخاطفة بالمسؤولين الأجانب خارج العراق، وكأنه يريد وضع الجميع امام الامر الواقع.
سيبقى السؤال يتكرر: هل من الطبيعي ان يسافر رئيس مجلس الوزراء لوحده ويعقد اجتماعا مع رئيسي دولتين دون علم مجلس الوزراء او وزارة الخارجية او السفارة العراقية في الدوحة؟!.
حتى في أعتى الدكتاتوريات، لا يقدم الحاكم على زيارة خارجية او لقاء مع مسؤول دولة أخرى بدون مشاورات ووفد مرافق وجدول اعمال.
سلوك السوداني خطير جدا لأنه يدلل على إمكانية اقدامه على أي خطوة مخالفة للأعراف السياسية والضوابط الإدارية والدستورية من أجل البقاء في السلطة.
يجب ان يتوقف هذا التهاون مع خروقات السوداني
في وقت تتأرجح فيه العملية السياسية بين الجمود والانتظار، اختار رئيس الجمهورية الدكتور عبد اللطيف رشيد أن يُبادر. لم ينتظر توازنات اللحظة، بل وجّه رسالة واضحة إلى السيد مقتدى الصدر، يدعوه فيها للعودة إلى الميدان الانتخابي، إيمانًا منه أن أي مشروع وطني سيكون ناقصًا دون حضور أحد أكبر التيارات الشعبية في البلاد.
الرسالة لم تكن فقط دعوة للمشاركة، بل كانت تعبيرًا عن حرص رئاسي دائم على لَمّ الشمل الوطني، وعلى فتح الأبواب لا غلقها، مهما اشتدت الخلافات وتباينت الرؤى.
وفي المقابل، جاء رد السيد مقتدى الصدر حاسمًا: “لن نشارك في انتخابات تُشرعن الفساد.” وهو موقف منسجم مع خط التيار الصدري الذي يرى أن الإصلاح لا يبدأ من صناديق اقتراع محكومة بصفقات ما قبل التصويت، بل من بنية سياسية جديدة.
لكن خلف هذا السجال العلني، ثمة مؤشرات لا يمكن تجاهلها: نشاط غير معلن داخل التيار، تحركات تنظيمية، وتحديث لبيانات بعض قواعده. كل ذلك يُوحي أن الباب لم يُغلق تمامًا… وأن هناك من يراقب المشهد، ويُعيد حساباته.
هل كانت رسالة الرئيس استباقية؟ أم محاولة جادة لإعادة التوازن؟
ما نعرفه أن رئيس الجمهورية، بخبرته الطويلة، يدرك أن العراق لا يُبنى بالإقصاء، بل بالحوار… وأن القوة تكمن في جمع المختلفين لا إقصائهم.
وما نراه من جانب السيد الصدر هو تمسّك برؤية إصلاحية جذرية، لا تقبل أن تُستعمل كغطاء لممارسات تُناقض ما خرج من أجله جمهور تشرين وكل من آمن بالتغيير.
إنها ليست مواجهة، بل مشهد من مشاهد العقلاء في زمن الانقسام.
أنا خاون القرداغي، أقرأ المواقف كما هي،
وأكتبها كما يفكر بها جمهور لا تُخدعه الشعارات…
والباقي… يقرره الزمن الانتخابي.
في الحكم والامثلة والاقوال والشعر غالباً ما يتم طمس تمييز حاسم بشكل مأساوي: الفرق بين الجهل والغباء. لذا، لأولئك الذين يعانون من هذه المعضلة الفلسفية المعقدة، اسمحوا لي ان انير الطريق الى التنوير (أو على الأقل لفهم معتدل).
الجهل ببساطة هو نقص في المعرفة. انت لا تعرف شيئاً ما. ربما لم تتح لك الفرصة لتعلمه ابداً. ربما كانت المعلومات مخفية في مجلد مغبر في مكتبة منسية (او غير متاحة بسهولة على الويكيبيديا). الأمر يشبه عدم معرفة كيفية التحدث باللغة السنسكريتية. هذا لا يجعلك سيئاً، فقط… لديك تحدي في اللغة السنسكريتية. الجهل قابل للشفاء. يمكن علاجه بالكتب او الأفلام الوثائقية او بحث جيد على غوغل، او حتى محادثة مع شخص يعرف بالفعل عما يتحدث.
والجهل هو عكس الذكاء، بصورة عامة. فالذكاء يرتبط بالقدرة على التفكير النقدي، وحل المشكلات، والتعلم من التجارب. بينما الجهل هو غياب هذه القدرات، مما يجعل الشخص غير قادر على فهم العالم من حوله او التفاعل معه بشكل فعال. فالشخص الجاهل يفتقر الى الأدوات المعرفية التي تمكنه من تحليل المعلومات وتقييمها واتخاذ قرارات مستنيرة.
اما الغباء فلا يتعلق بنقص المعلومات وانما يتعلق بالحصول على المعلومات، حتى بعد أن يتم دفعها مباشرة الى مقل عينيك، ثم الشروع في "اتخاذ قرارات غير صحيحة". الأمر يشبه ان تكون متحدثاً بطلاقة للغة السنسكريتية ثم تستخدمها للخطابة كما يفعل بعض قادة العراق الميامين. بالتأكيد، يمكنك فعل ذلك، ولكن… لماذا؟ الغباء وحش عنيد. انه مقاوم للحقائق والمنطق وحتى الحس السليم. انه يزدهر بالمعلومات المضللة ونظريات المؤامرة والايمان الراسخ بأن رأي المرء المعيب بشدة يعادل بطريقة ما الحقيقة القابلة للتحقق.
هل الغباء عكس الذكاء؟ يمكن القول ان الذكاء هو العكس الأكثر شمولاً للغباء، حيث يشمل مجموعة واسعة من القدرات المعرفية والعقلية التي تمكن الشخص من فهم العالم والتفاعل معه بفعالية. ولكن، من المهم ايضا ان نأخذ في الاعتبار المفاهيم الأخرى مثل الفطنة والحكمة والوعي والتعقل، حيث انها تمثل جوانب مختلفة من القدرات العقلية التي تتناقض مع جوانب مختلفة من الغباء.
بأختصار، الذكاء هو القدرة على الفهم السريع والتفكير المنطقي وحل المشكلات والتكيف مع المواقف الجديدة. اما الجهل فهو نقص المعرفة او عدم الالمام بالحقائق. بينما الغباء هو نقص في الفهم والإدراك مع احتمال وجود معرفة ولكن عدم القدرة على تطبيقها بشكل صحيح او اتخاذ قرارات منطقية.
هذه بعض الأمثلة البسيطة للفرق بين الجهل والغباء، وأرحب بمشاركتكم بأمثلة أخرى:
الجهل:
عدم معرفة عدد الأحزاب السياسية المتنافسة في الانتخابات (لأن العدد كبير جدا لدرجة النسيان).
الاعتقاد بأن "القضاء على الفساد" هي خطة حكومية.
عدم التمييز بين تصريح مسؤول حكومي وبين نكتة سمجة.
السؤال عن مكان الاختناقات المرورية في يوم العطلة الرسمية (وكأنها اختفت تماما).
عدم فهم أسباب انقطاء الكهرباء وارتفاع اسعار المواد الغذائية بشكل مستمر.
الاعتقاد بأن المسؤولين الحكوميين جادون في "مكافحة الفساد".
الظن بأن بناء مجّسر آخر سيحل مشكلة الازدحام.
عدم فهم ان الشعب ينتظر حلولا جذرية وليس مجرد "مسكنات مؤقتة" للأزمات.
عدم فهم ان الأمن الحقيقي لا يتحقق بالمليشيات وقوات الامن، بل ببناء دولة قانون عادلة.
عدم معرفة ان ثروات البلاد يجب ان تستغل لخدمة الشعب وليس لتمويل النخب الفاسدة.
الغباء:
انتظار تحسن خدمات الكهرباء دون وجود أي مؤشرات حقيقية لذلك منذ عقود.
التصويت لنفس الوجوه السياسية التي وعدت بالاصلاح في الانتخابات السابقة وفشلت.
تصديق الوعود الانتخابية.
الاحتفال بوضع حجر الأساس لمشروع ستنهب الاموال المخصصة له.
القاء اللوم على "الأصابع الخارجية" في كل مشكلة داخلية، وكأن القوى السياسية الداخلية لا دور لها فيه.
تجاهل التقارير الدولية التي تشير الى مستويات الفساد القياسية، والادعاء بأن "الأوضاع تتحسن".
الاستمرار في اطلاق نفس الوعود والتصريحات في كل مناسبة وكأن الذاكرة العراقية قصيرة جدا.
محاولة تبرير القرارات الخاطئة بمنطق أعوج لا يقنع حتى الأطفال.
تبني سياسات طائفية وعرقية تزيد من الانقسام والكراهية بين مكونات الشعب.
لذا، في المرة القادمة التي تصادف فيها شخصاً يبدو… أقل من مستنير، توقف لحظة للتفكير في التمييز. هل هو ببساطة يفتقر الى المعلومات؟ ام انه يرفضها بنشاط لصالح وهمه المصمم بدقة؟ لأنه في حين يمكن اصلاح الجهل بالتعليم، فأن للغباء قصة مختلفة تماماً. غالباً ما يتطلب بدلة واقية وجرعة كبيرة جداً من الصبر. أو، كما تعلم، مجرد الابتعاد. هذا ينفع ايضاً. ربما أفضل، في الواقع.
للمرة الرابعة منذ توليه رئاسة الوزراء، وصل محمد شياع السوداني إلى أربيل في زيارة لا تبدو عابرة في مضمونها، خصوصاً أنها جاءت بعد سلسلة تحركات سياسية لافتة شهدتها بغداد، كان أبرزها زيارة زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، السيد بافل طالباني، الذي التقى قبل يومين رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، ورئيس تحالف الفتح هادي العامري، ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني، إضافة إلى رئيس تحالف عزم مثنى السامرائي.
هذا التتابع في الزيارات والاجتماعات ليس مصادفة زمنية، بل يعكس إيقاعاً سياسياً مدروساً يُراد من خلاله إعادة ترتيب خطوط التفاهم بين بغداد وأطراف البيت الكردي، استعداداً لمرحلة ما بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة المقررة في 11 تشرين الثاني 2025.
زيارة بافل طالباني إلى بغداد لم تكن بروتوكولية بقدر ما كانت رسالة واضحة بأن الاتحاد الوطني الكردستاني حاضر في قلب المعادلة الوطنية. يتحرك بافل بثقة كأحد أركان المعادلة الوطنية، واضعاً الاتحاد الوطني في موقعه الطبيعي ضمن مراكز التأثير. أما لقاءاته مع المالكي والعامري والسامرائي، فتُقرأ ضمن سياق أوسع من محاولات تقريب وجهات النظر مع القوى السياسية المؤثرة، سواء في الحكومة أو في البرلمان. في حين أن لقاءه مع رئيس الوزراء السوداني يحمل دلالات خاصة، إذ يندرج ضمن مسار التنسيق المتقدم بين الاتحاد الوطني والحكومة الاتحادية، لا سيما في ظل التحديات الإقليمية والدستورية القائمة.
وفي هذا المناخ السياسي، جاءت زيارة السوداني إلى أربيل لتكمل المشهد. فلقاءاته مع قيادات الحزب الديمقراطي الكردستاني، وشخصيات أخرى فاعلة في الإقليم، تؤكد أن الحكومة الاتحادية تتعامل مع كردستان كشريك متعدد الرؤى موحد في الثوابت الوطنية، وأن هناك رغبة حقيقية في تجاوز الملفات العالقة بروح الحوار لا عبر أساليب الضغط.
السوداني، الذي يحاول تثبيت معادلة الاستقرار السياسي من خلال التوازن في العلاقة مع مختلف القوى، يبدو حريصاً على أن لا يُستدرج إلى اصطفافات ضيقة، بل يتحرك باتجاه تهدئة العواصف قبل أن تشتد. فهو يعرف أن التفاهم مع أربيل لا يكتمل دون السليمانية، وأن بناء حكومة قوية بعد الانتخابات لا يمكن أن يتم دون تفاهمات متينة مع القيادات الكردية.
من جانبها، تظهر القيادة الكردية بموقف وطني واضح، مدركة لحساسية المرحلة، ومتمسكة بحقوقها الدستورية دون أن تتخلى عن دورها في حفظ استقرار الدولة. وبذلك، تعيد القوى الكردية تثبيت مكانتها كفاعل رئيسي، لا فقط في قضايا الإقليم، بل في مستقبل العراق السياسي بأكمله.
ما يُقرأ بين السطور أن ما يجري اليوم ليس ترتيباً آنياً، بل بداية مشاورات جدية لتحالفات تمتد إلى ما بعد يوم الاقتراع. وبهدوء محسوب، تتحرك بغداد والسليمانية وأربيل نحو تفاهمات تُبنى على أساس الاحترام والتوازن، في مشهد يعكس وعياً سياسياً متقدماً، وقراءة دقيقة لمعادلات الداخل والخارج.
زيارة السوداني إلى أربيل إذن، لا تنفصل عن زيارة بافل طالباني إلى بغداد، بل تكملها. كلاهما يتحركان داخل دائرة تفاهم أكبر، ترسم ملامح مرحلة سياسية جديدة، قد تبدأ في صندوق الاقتراع، لكنها لا تكتمل إلا على طاولة الحوار.
أنا خاون القرداغي، وهذا ما قرأته بين السطور… والباقي ترويه الأيام.