حين لا تذهب إلى الصندوق.. من الذي يخسر؟
خاون القرداغي
٢٨ مايو ٢٠٢٥
الانتخابات في العراق لا تشبه الانتخابات في أي مكان آخر. ليست مجرد اقتراع، ولا اختباراً ديمقراطياً دورياً، بل أشبه ما تكون بمسرح معقّد: الجمهور يعرف النهاية، لكن لا أحد يغادر القاعة.
يُقال إن المشاركة تصنع التغيير. عبارة مألوفة، تَرد في كل حملة إعلامية، وتُطبع على كل بوستر انتخابي. لكن ماذا عن المقاطعة؟ ماذا تفعل إذا كان نصف الشعب يقرر ألا يذهب إلى مراكز الاقتراع؟ هل تغيّر أيضاً؟ أم تفتح الباب للفراغ، للبدائل الأخطر، أو للشرعية المصطنعة؟
هذا السؤال ليس جديدًا، لكنه لم يُطرح بجدّية كافية. الكل يتحدث عن “الذهاب للصندوق”، لكن قليل من يسأل: ماذا يحدث حين لا نذهب؟
لنفهم نتائج المقاطعة، علينا أولاً أن نُفرّق: هل هي فعلٌ احتجاجي واعٍ؟ أم ردة فعل يائسة؟ الفرق بين الاثنين، هو الذي يُحدد أثرها.
في انتخابات 2018، نسبة المشاركة كانت أقل من 45% بحسب مفوضية الانتخابات. وفي 2021، ومع كل الوعود والتحسينات، كانت المشاركة حوالي 41%. هذا يعني أن أكثر من نصف الشعب لم يُصوّت. لكن، من تولوا المناصب قالوا إنهم “اختارهم الشعب”، رغم أن الشعب لم يكن هناك.
هنا تظهر أولى نتائج المقاطعة: فقدان التمثيل الحقيقي. صعود قوى لا تعكس غالبية الناس، بل فقط من ذهبوا للصندوق. استمرار المنظومة القائمة دون مساءلة، بحجة أن الناس لا تهتم.
نعم، أحياناً تُخيف المقاطعة السلطة، لكنها لا تهددها فعلاً إلا إذا اقترنت بوعي جمعي، وتحرك مدني منظم، وصوت إعلامي ذكي. حين تتجاوز المقاطعة نسبة 60–70%، تبدأ السلطة في القلق، ليس لأن شرعيتها تنهار واقعياً، بل لأنها تنهار معنوياً وإعلامياً.
في الجزائر، انتخابات 2019 شهدت نسبة مشاركة لم تتجاوز 39%. ظهرت تقارير دولية تقول: “الانتخابات لم تُقنع أحداً”. فجأة، صار حديث الإعلام عن شرعية النظام، لا عن الفائز. وفي لبنان، انتخابات 2022 سجّلت أدنى نسبة مشاركة منذ 2005، وكل القوى التي راهنت على شرعية الصندوق وجدت نفسها تُبرر، لا تحتفل.
ينطبق هذا على العراق أيضاً، لكن بشكل خاص ومعقّد. لأن السلطة هنا لا تخاف من المقاطعة المجردة… بل من المقاطعة الواعية، المنظمة، الصاخبة إعلامياً.
يبقى هناك سؤال أكثر حساسية: هل المقاطعة تُسهّل التزوير؟
الجواب واقعي أكثر منه نظري. كلما قلّ عدد المشاركين، أصبح من الأسهل التلاعب بالنتائج، وتدوير الوجوه، وتضخيم الأصوات الصغيرة لتصبح كبيرة. بل في بعض الحالات، المقاطعة الجماعية تجعل الأقلية تحكم باسم الأغلبية، قانونياً وإعلامياً. يعني: المقاطعة بدون بديل أو مشروع سياسي واضح، تُفسر من السلطة بأنها ضوء أخضر للاستمرار.
من الناحية الأخلاقية، يراها البعض تجريدًا للفاسدين من شرعيتهم الأخلاقية. حين لا يذهب الناس، يُفهم أنهم لا يثقون بالنظام، ولا بالعملية، ولا بالمخرجات. لكن هل تُقرأ هذه الرسالة من الأطراف المعنية؟ غالباً لا. لأن من يعيش داخل المنظومة لا يسمع إلا صدى نفسه.
وفي النهاية، من يخسر؟ الشعب؟ السلطة؟ أم الطبقة الوسطى التي لا تصوّت ولا تخرج إلى الشارع، وتنتظر معجزة؟
الجواب ليس بسيطاً. المقاطعة بلا صوت إعلامي حقيقي تعني صمتاً. والمقاطعة بلا مشروع بديل تعني فراغاً. والمشاركة بلا مساءلة تعني شرعنة للتكرار.
المشاركة قد تُحدِث تغييرًا، لكنها لا تكفي وحدها. والمقاطعة قد تُربك، لكنها لا تصنع بديلاً. التغيير لا يصنعه فقط الذهاب أو الانسحاب، بل الوعي الجماعي الذي يسبق الصندوق ويتجاوزه.
في العراق، لا يكفي أن نُشارك أو نقاطع. يجب أن نسأل دائماً: لماذا؟ وبأي شروط؟ ولمن نعطي شرعيتنا؟
أنا خاون القرداغي، ومنذ أكثر من عقدين وأنا أتابع الانتخابات لا كحدث موسمي، بل كظاهرة اجتماعية وسياسية، أسمع ما لا يُقال، وأحلل ما لا يظهر في الصور. في عالم السياسة، أحيانًا يكون “الغياب” أقوى من الحضور، إذا كان وعيًا، لا هروبًا