حين تدخل منظمة مثل بوگواش إلى العراق، لا تدخل كضيف رسمي، ولا كمجرد جهة مهتمة بالسلام. تدخل كفكرة، كتجربة عمرها أكثر من نصف قرن، قررت أن تحمي العالم من أخطر ما اخترعه الإنسان: السلاح النووي.

بوگواش ليست مؤتمراً كلاسيكياً، ولا منظمة تنشط على الشاشات. هي هادئة مثل القلق، ومستمرة مثل الخوف من الانفجار الكبير. تأسست في لحظة ندم بعد الحرب العالمية الثانية، حين قرر بعض العلماء أن لا يكرّروا خطأهم. منذ ذلك الوقت، وهي تنسج حواراتها بصمت، بعيداً عن الكاميرات، وفي أماكن قد لا يتوقعها أحد.

أن تصل هذه المنظمة إلى السليمانية، هو بحد ذاته حدث. مدينة تعرف كيف تستقبل الحوار، وتعرف كيف تصغي. هذه ليست مجاملة للمدينة، بل توصيف حقيقي لطبيعتها. جامعات، مقاهي، صحف، جيل يقرأ أكثر مما يتكلم، ويستمع أكثر مما يتباهى. لذلك، كان من الطبيعي أن تبدأ بوگواش من هناك.

ما شدّني شخصياً في هذا المؤتمر، هو الحضور اللافت للدكتور حسين الشهرستاني. رجل يعرف تماماً معنى أن تقول “لا” في زمن الصمت. عالم نووي، رفض أن يكون أداة، ودفع ثمن ذلك. وجوده في مؤتمر مثل هذا، يعطيه عمقاً لا يمكن تجاهله. لأن الحديث عن نزع السلاح ليس مجرد نظرية بالنسبة له، بل قرار اتخذه منذ زمن بعيد، واستمر عليه.

الجميل في الأمر، أن اللقاء لم يتوقف في السليمانية. بل انتقل المشاركون إلى حلبجة. المدينة التي تعرف السلاح الكيمياوي عن قرب، تعرفه في الوجوه، وفي الذاكرة، وفي الحكايات التي لا تموت. أن تُطرح فكرة السلام في مدينة مجروحة مثل حلبجة، هذا ليس تنظيراً. هذه مواجهة صادقة بين من عاش الكارثة، ومن يريد أن يمنع تكرارها.

أنا لا أتوهم أن مؤتمراً مثل بوگواش سيمنع الحروب المقبلة، ولا أتصور أن النقاشات وحدها كافية. لكن ما يحدث هنا هو بداية مختلفة. بداية من العراق، من مدينة لم تعد تكتفي بأن تُذكر في التقارير الأمنية، بل تحاول أن تكتب سطرًا في التقارير الإنسانية.

السؤال ليس: هل ستتغير المنطقة؟ بل: هل ما زال هناك متسع للعقل في هذه الجغرافيا المعقدة؟
بوگواش جاءت لتقول: نعم… ولو بصوت منخفض.

أنا خاون القرداغي، وأكتب لأني أؤمن أن العقل، مهما خفت صوته، يبقى أقوى من كل الضجيج