بغداد تغلق الباب.. وأربيل تفقد المفتاح
خاون القرداغي
١١ يونيو ٢٠٢٥
قيل إن بغداد لم تعد ترحّب بالوفود القادمة من أربيل.
لكن الحقيقة أعمق من ذلك.
فما أُغلق لم يكن مجرد بابٍ إداري، بل مساحة تفاهم كانت تُبقي العلاقة حيّة، ولو على أجهزة التنفس الاصطناعي.
منذ 2003، لم تُبْن العلاقة بين المركز والإقليم على أرض صلبة.
بل تأسست على “التفاهمات المؤقتة”، تلك التي تُكتب بالحبر السياسي وتُمحى بالماء المتقلّب للظروف.
ولم يكن هناك عقد شراكة طويل الأمد، بل تبادل مصالح مرحلي، فيه الكثير من الحذر… والقليل من الثقة.
الوفود التي اعتادت أن تطير من أربيل إلى بغداد كانت تحمل معها أكثر من ملف…
تحمل أملًا هشًّا بأن اللقاء قد يغيّر شيئًا، أو يُخفف وطأة الأزمة، أو يفتح نافذة بعد أن أُغلقت الأبواب.
لكن بغداد تغيّرت.
لم تَعُد تهتم بما يُقال خلف الطاولات، بل بما يُسلّم على الورق.
صارت تنظر للملف الكردي كما ينظر المحاسب إلى ميزانية ناقصة:
“أين الإيرادات؟ وأين توقيع الخزينة؟”
الرد غير المُعلن: “لا ترسلوا وفوداً… أرسلوا جداول.”
ولا بيانات سياسية، ولا شروحات إعلامية، بل كشوفات حساب لا تحتاج إلى مترجم سياسي.
في أربيل، لم يكن الاستياء خفياً.
فحين يلتزم الإقليم بضخ النفط، ثم لا تصله المستحقات كاملة،
وعندما تُربط الرواتب بتقارير لجنة مالية اتحادية،
ويُعامل كأن لا وجود لخصوصية أو تعقيد،
يبدأ شعور “الخسارة بدون مقابل” بالتكاثر داخل القرار الكردي.
السؤال الأهم ليس إن كانت بغداد ترفض الحوار، بل:
هل ما زالت هناك قناعة لدى الطرفين بأن هذه العلاقة تستحق أن تُنقذ؟
بغداد لا تريد مناقشة التفاصيل، بل تنفيذ القانون كما تراه هي.
وأربيل لم تعُد تملك الوقت الكافي لإعادة التفاوض في كل مرة.
النتيجة؟
رجل في دهوك ينتظر راتبه منذ شهرين،
وامرأة في السليمانية تسأل في السوق: “هل صرفوا الرواتب؟”
وفي مكان آخر، تُكتب تقارير تُقيّم الأداء المالي للإقليم وكأنه دائرة صغيرة في دولة كبيرة، لا كيانًا سياسيًا له تاريخ معقد.
لكن ما يغيب عن هذه المقاربة هو أن العلاقة بين أربيل وبغداد لم تكن يوماً علاقة رقمية.
بل كانت سياسية، مشوبة بالعاطفة أحياناً، والمجاملات في أحيان أكثر.
حين يُقطع الحوار، حتى وإن كان شكليًا،
وحين يُدار ملف بهذا الحجم عن طريق البريد الإلكتروني والتواقيع فقط،
فذاك يعني أننا لم نعد في مرحلة تفاهم، بل في مرحلة فرض قواعد.
هل تقبل أربيل أن تتحول إلى تابع إداري؟
وهل تفهم بغداد أن الفيدرالية ليست ملفًا ماليًا بل فلسفة حُكم؟
هذا ليس صراع أرقام، بل صراع على طريقة فهم الدولة.
والخطر الأكبر ليس في تأخر الرواتب، بل في فقدان الثقة…
لأن الرواتب قد تُصرف لاحقاً، لكن الثقة حين تُفقد لا تُسترد بسهولة.
الوفود كانت تحاول أن تُبقي الخيط ممدودًا،
حتى لو كان واهنًا.
واليوم، قُطع الخيط.
فمَن سيعيد وصله؟
ومَن يملك المفتاح الجديد… إن كان المفتاح قد فُقد بالفعل؟
أنا خاون القرداغي، أجريت الحوارات عندما كانت الأبواب مفتوحة، وأحلّل الآن حين أُغلقت وبدأت تُدار الملفات من خلف الزجاج المعتم للعقل المركزي