‎قيل إن بغداد لم تعد ترحّب بالوفود القادمة من أربيل.
‎لكن الحقيقة أعمق من ذلك.
‎فما أُغلق لم يكن مجرد بابٍ إداري، بل مساحة تفاهم كانت تُبقي العلاقة حيّة، ولو على أجهزة التنفس الاصطناعي.

‎منذ 2003، لم تُبْن العلاقة بين المركز والإقليم على أرض صلبة.
‎بل تأسست على “التفاهمات المؤقتة”، تلك التي تُكتب بالحبر السياسي وتُمحى بالماء المتقلّب للظروف.
‎ولم يكن هناك عقد شراكة طويل الأمد، بل تبادل مصالح مرحلي، فيه الكثير من الحذر… والقليل من الثقة.

‎الوفود التي اعتادت أن تطير من أربيل إلى بغداد كانت تحمل معها أكثر من ملف…
‎تحمل أملًا هشًّا بأن اللقاء قد يغيّر شيئًا، أو يُخفف وطأة الأزمة، أو يفتح نافذة بعد أن أُغلقت الأبواب.

‎لكن بغداد تغيّرت.
‎لم تَعُد تهتم بما يُقال خلف الطاولات، بل بما يُسلّم على الورق.
‎صارت تنظر للملف الكردي كما ينظر المحاسب إلى ميزانية ناقصة:
‎“أين الإيرادات؟ وأين توقيع الخزينة؟”

‎الرد غير المُعلن: “لا ترسلوا وفوداً… أرسلوا جداول.”
‎ولا بيانات سياسية، ولا شروحات إعلامية، بل كشوفات حساب لا تحتاج إلى مترجم سياسي.

‎في أربيل، لم يكن الاستياء خفياً.
‎فحين يلتزم الإقليم بضخ النفط، ثم لا تصله المستحقات كاملة،
‎وعندما تُربط الرواتب بتقارير لجنة مالية اتحادية،
‎ويُعامل كأن لا وجود لخصوصية أو تعقيد،
‎يبدأ شعور “الخسارة بدون مقابل” بالتكاثر داخل القرار الكردي.

‎السؤال الأهم ليس إن كانت بغداد ترفض الحوار، بل:
‎هل ما زالت هناك قناعة لدى الطرفين بأن هذه العلاقة تستحق أن تُنقذ؟

‎بغداد لا تريد مناقشة التفاصيل، بل تنفيذ القانون كما تراه هي.
‎وأربيل لم تعُد تملك الوقت الكافي لإعادة التفاوض في كل مرة.

‎النتيجة؟
‎رجل في دهوك ينتظر راتبه منذ شهرين،
‎وامرأة في السليمانية تسأل في السوق: “هل صرفوا الرواتب؟”
‎وفي مكان آخر، تُكتب تقارير تُقيّم الأداء المالي للإقليم وكأنه دائرة صغيرة في دولة كبيرة، لا كيانًا سياسيًا له تاريخ معقد.

‎لكن ما يغيب عن هذه المقاربة هو أن العلاقة بين أربيل وبغداد لم تكن يوماً علاقة رقمية.
‎بل كانت سياسية، مشوبة بالعاطفة أحياناً، والمجاملات في أحيان أكثر.

‎حين يُقطع الحوار، حتى وإن كان شكليًا،
‎وحين يُدار ملف بهذا الحجم عن طريق البريد الإلكتروني والتواقيع فقط،
‎فذاك يعني أننا لم نعد في مرحلة تفاهم، بل في مرحلة فرض قواعد.

‎هل تقبل أربيل أن تتحول إلى تابع إداري؟
‎وهل تفهم بغداد أن الفيدرالية ليست ملفًا ماليًا بل فلسفة حُكم؟

‎هذا ليس صراع أرقام، بل صراع على طريقة فهم الدولة.
‎والخطر الأكبر ليس في تأخر الرواتب، بل في فقدان الثقة…
‎لأن الرواتب قد تُصرف لاحقاً، لكن الثقة حين تُفقد لا تُسترد بسهولة.

‎الوفود كانت تحاول أن تُبقي الخيط ممدودًا،
‎حتى لو كان واهنًا.
‎واليوم، قُطع الخيط.
‎فمَن سيعيد وصله؟
‎ومَن يملك المفتاح الجديد… إن كان المفتاح قد فُقد بالفعل؟

‎أنا خاون القرداغي، أجريت الحوارات عندما كانت الأبواب مفتوحة، وأحلّل الآن حين أُغلقت وبدأت تُدار الملفات من خلف الزجاج المعتم للعقل المركزي