قيل لي ذات مساء:
كل شيء في العراق قابل للموت… الكهرباء، الماء، الرواتب، التعليم، الصحة، العدالة، حتى الأمل نفسه… لكن شيئًا واحدًا بقي حيًا، لم يذبل، لم ينهزم: الغيرة العراقية.

تأملت العبارة. ظننتها مبالغة أول الأمر، حتى وقفتُ على معناها في تفاصيل الناس… في عيون البسطاء، في تصرفات “الما عدهم غير شرفهم”، في قصص لا تروى على الشاشات ولكنها تعيش في الأزقة وبين الجدران.

هل تريد دليلاً؟
خذ ما جرى في الموصل بعد تحريرها. مدينة مدمرة، ناسها مهجرون، وقلوبهم مكسورة. ومع ذلك، عاد الناس ليبنوا بيوتهم بأيديهم. لا منظمة دولية، لا قرض حكومي، لا وعد سياسي. فقط شرفهم، وغيرتهم، و”ما نقبل أحد يشوف بيتنا خرابة”.
شاب في العشرين، باع دراجته ليساعد أباه في بناء غرفة تسكن فيها أمه. لم يسأل عن الدولة، سأل عن “الستر”.

في البصرة، حين يُغرقها الإهمال ويُقتل شبابها برصاص “طائش لا يُحاسب”، نجد أهلها يغسلون دم أبناءهم بالدموع ويصرّون على دفنهم بكرامة. ثم في اليوم التالي، تجد الأم الثكلى تطبخ للمشيعين وتقول “ما أريد أحد يحچي علينا”.
أيعقل أن يبقى هذا النوع من الكرامة حيًا وسط الخراب؟ نعم… لأن الغيرة لا تموت.

في كربلاء، حين اندلعت الحرائق في بعض الفنادق خلال الزيارات، هرع الناس ليخرجوا الزوار، بعضهم دخل بغير تردد وسط النار. لم يفكر بنفسه، فكر بـ”حرمة الضيف”، بـ”ما يصير نخلي أحد يحترگ وإحنە نشوف”.

في النجف، حين أُسعف طفل سوري لاجئ مصاب بالسرطان إلى مستشفى حكومي، لم يسأله أحد عن جنسيته. الطبيب العراقي قال: “عندي غيرة، مثل ما ما أقبل على ابني، ما أقبل على هذا الطفل”.

في بغداد، قبل أشهر فقط، احترقت سيارة أحد المواطنين أمام أعين الناس. لا أحد عرفه، لا أحد سأل عن مذهبه أو منطقته، لكن شيئًا في دواخل الشباب دفعهم ليقفوا بجواره.

ما هي؟ إنها الغيرة العراقية.

تجمّعوا حوله، وجمعوا له مبلغًا محترمًا من المال ليسدّ أول صدمة، لا أكثر. لم يسأله أحد: “أنت منو؟” بل قالوا: “أنت عراقي… وتعبك ما يحترگ وحدك”.

وأنا – خاون القرداغي – لا أنقل حكايات الآخرين فقط.
في طوزخورماتو، اشتريت يومًا تمرًا من أحد الباعة، وقلت له بصوت عفوي: “أريد سلة طيبة، هاي لأمي”.
ما إن سمع كلمة “لأمي”، حتى قال دون تفكير:
“والله هاي هدية، لا تاخذ مني شي… هاي الغيرة يا أخي”.

هذه الغيرة لا تُدرّس في المدارس، ولا تخرج من الدساتير، بل تنبع من الطبع، من الدم، من اللاوعي العراقي العميق.

الغيرة العراقية ليست صفةً طارئة، بل مركّب من الفطرة والتاريخ. هي امتداد لزمن كانت العشيرة تموت إذا أُهين اسمها، والزلمة يُذبح نفسه ولا يُقال عنه “ما عنده غيرة”.
نحن من قال فينا الشاعر:

“الغيرة إلنا والكرم من طبعنا
والموت نختاره ولا حد يذلنا”

نعم، تموت مشاريعنا، وتُنهب مواردنا، وتغيب العدالة، ويهرب الأطباء، وتُقمع الصحافة…
لكن الغيرة العراقية لا تموت، لأنها ليست من مؤسسات الدولة، بل من تراب الأرض.

هي التي تجعل أبًا يعيل أسرته من عرقه ويرفض السرقة حتى لو جاع،
وأمًا ترفض أن تخرج من بيتها دون “ستر”،
وشابًا يعمل 18 ساعة في اليوم كي لا يُقال “عائلته محتاجة”،
وبنتًا تتخرج بتفوق لتقول لأبيها “تعبك ما راح هدر”.

أنا لا أزعم أن العراقيين وحدهم في العالم يمتلكون الغيرة…
لكنني، خلال أكثر من عشرين عامًا من التنقل والسفر والحوار، لم أرَ شعبًا يغلي بها كما يغلي بها العراقي.
كرديًا كان أم عربيًا، شيعيًا أو سنيًا، مسلمًا أو مسيحيًا… حين تُمسّ كرامته، يتغير صوته، ينهض.

أنا خاون القرداغي، منذ أكثر من عقدين وأنا أجري الحوارات مع السياسيين، أستمع وأحلل…
لكنني أؤمن أن الغيرة العراقية ليست في تصريحاتهم، بل في تفاصيل الناس العاديين.
هؤلاء وحدهم… من يملكون ما لا تموت به الأوطان