مقالة

المشكلات الاقتصادية المزمنة في منطقتنا لها جذور مرتبطة بالمنظورات الاقتصادية، التي اعتمدتها الدول ذاتها منذ سنوات طويلة، هذه المنظورات غلب عليها الدوافع الفكرية أو ما يسمى النموذج الذاتي في بناء الاقتصاد، تركيا التي نجحت في تجربتها الاقتصادية بدأت تعاني من نتائج تدخل السياسيين - شخص الرئيس اردوغان- في ادارة الاقتصاد مخالفا المبادئ والقوانين التي ابتكرها الخبراء منذ امد طويل، في لجم التضخم وتحفيز النمو والمحافظة على سعر الصرف وتشجيع الاستثمار، وكل هذه المعادلات تشكل بمجموعها عاملا نفسيا وماديا يصنع الثقة بالاقتصاد أو يسلبها منه، ايران حاولت فصل العوامل السياسية الخارجية عن التأثير في اقتصادها ورفعت شعار (الاقتصاد المقاوم) محاولِة التغلب على الاثر النفسي للعقوبات على سعر الصرف، لكنها بالكاد تنجح في إبطاء سرعة انهيار العملة المحلية، وما زال السياسيون والخبراء والإعلاميون يخوضون سجالات حادة في كيفية حل الازمة المستفحلة، بين منظورين أحدهما يريد التعاطي مع قوانين الاقتصاد والاندماج بالسوق المالي العالمي، واخر يحبذ الانعزال والاعتماد على الذات وانتظار الحل باسلوب الاعتماد على امكانات الداخل.

اما حالة مصر التي عانت من ضعف اقتصادها منذ عشرات السنين، فان اسلوب الرئيس السيسي الذي جلب الاهتمام في السنوات الاولى من خطته، اصطدم بحقائق الواقع ولم تسعفه الطموحات الكبيرة والانفاق الواسع بقروض كبيرة في تأخير الاستحقاقات المتوقعة، وهي التاخر أو العجز عن سداد أقساط الدين وتراجع قيمة الجنيه وفرار المستثمرين وارتفاع نسبة التضخم.

القاسم المشترك في ازمات الدول الثلاث هو المنظور الاقتصادي، فهذا المنظور خضع جزئيا أو كليا للرغبة السياسية وليس لقوانين الاقتصاد، لمزاج الرئيس أو الهيئة الحاكمة وليس لاراء الخبراء المستقلين.

الرئيس التركي المعاد انتخابه أذعن أخيرا بأن أفكاره في خفض اسعار الفائدة لتحفيز النمو وزيادة إقراض المستثمرين المحليين واتخاذ اجراءات غير معهودة للحفاظ على سعر صرف الليرة لم تعد مجدية، وعليه أن يترك إدارة دفة الاقتصاد للخبراء، لذلك سارع إلى اعادة الخبير محمد شمشك ليسلمه ادارة المالية والاقتصاد، وعين (حفيظة غاية اركان) ذات الواحد والاربعين ربيعا، لترأس البنك المركزي في مسعى جديد لتدارك مشكلات الاقتصاد، الذي ينمو بسرعة ولكن تراجع قيمة الليرة أرهق الاقتصاد اليومي للناس، ايران ومصر مازلتا غير قادرتين على اتخاذ خطوات جريئة، كما تجرأ اردوغان بسبب التعقيد الكبير في العوامل الاقتصادية والسياسية.

نحن في العراق نحتاج إلى منظور اقتصادي يصوغه الخبراء ويتبعه وينفذه السياسيون وليس العكس، فقد تأخرنا كثيرا وتراكمت مشكلات بنيوية تحتاج إلى جرأة وصراحة وموقف حازم، ما يساعد على بناء هذه الرؤية الظروف الداخلية والخارجية الملائمة نسبيا وخطط رئيس الحكومة التي اعتمدت أولوية الاقتصاد، لكن المعوق لهذه الرؤية هو تنازع الاحزاب والزعامات الفاعلة والقوى السياسية التي استمرأت الاجراءات الشعبوية، منتهجة مبدأ توزيع الريع النفطي لغرض ارضاء الطبقات الفقيرة والجمهور الانتخابي، دونما رؤية علمية ولا حساسية تدرك الافق المستقبلي الملبد بغيوم التحديات الجسام.

يختلف الاقتصاديون في ما بينهم بشأن مناهج التنمية، بين داع إلى منهج النمو المتوازن في جميع القطاعات الانتاجية وبين منهج النمو غير المتوازن، لكل منهج من هذه المناهج محاسنه ومساؤه في الظروف المختلفة يعرفها اهل الاختصاص، لكن انتظار تطبيق منهج النمو المتوازن في الاقتصادات الهشة ضعيفة التمويل، يعيق تحقيق تقدم سريع في القطاعات الرائدة ذات المزايا، وميزة الاقتصاد العراقي أنه يمكن أن يحقق نموا سريعا في مجالات التشييد والصناعات التحويلية، بعدما اخفق في الاستفادة من مزية كونه اقتصاد طاقة ومنتجا كبيرا للنفط، فما زال العراق يستورد احتياجاته من موارد الطاقة (مشتقات نفطية + غاز) وتأخر كثيرا في صناعة البتروكيمياويات قياسا بما تنتجه السعودية وايران ومصر، ويفتقد إلى رؤية للتصنيع وما زالت مساهمة قطاع الصناعة في الناتج المحلي الاجمالي ضعيفة لاتزيد على 3 بالمئة، يتعين في مثل الاحوال التوجه إلى الاستثمار في القطاعات القادرة على تشكيل رأسمال مولد قادر على توفير فرص عمل وتحقيق مردود، يمكن أن يحرك باقي القطاعات، العراق يهمل قطاع التعدين المهم (الفوسفات، الكبريت، الرمال، الحجر) ويفرط في تطوير صناعة السياحة والفندقة.

إنه يستقبل ملايين الزائرين ولا يعرف ادارة قطاع السياحة الدينية، كما تفعل السعودية لزيادة فرص التشغيل وتحقيق عوائد مالية، وتتوالى الأمثلة على ضعف (التفكير الاقتصادي) وتنامي عوائق الانطلاق نحو تنمية سريعة، تنقذ البلاد من ترهل القطاع العام وتخفف عن المالية العامة كلف التشغيل البيروقراطي غير المنتج، بما يسبب هدرا في الموارد ومشكلات اجتماعية وسياسية لا حصر لها، كما هو دائر الآن في الجدل السنوي على فقرات الموازنة العامة التي بالكاد ترى النور، وهي في أحسن احوالها ما زالت موازنة بنود، ولم تتحقق موازنة البرامج كما تعهد بذلك رئيس الوزراء الأسبق عادل عبدالمهدي عام 2018، العراق يحتاج إلى منظور اقتصادي يبعد السياسات الاقتصادية عن لعبة المصالح السياسية والانتخابية والحزبية، منظور يضع أهدافا وخططا للعشرين عاما القادمة، يوم يبلغ عديد السكان 70 مليونا ويفقد النفط أهميته، ويأخذ بالحسبان أن البلاد لا تصدر مواد مصنعة، وتستهلك ما ينتجه ويصنعه الآخرون بشراهة ورفاهية الثري الكسول.
اقرأ المزيد
في أول لقاء بينهما في القاهرة عام (١٩٦٣)، قال عبد الناصر لرئيس الوفد الكردي آنذاك مام جلال: (نحن القوميون العرب ليست لدينا حلول جاهزة للقضية الكردية..)، الأمر الذي أثار في ذهن مام جلال تحدياً مصيرياً، ونبهه إلى سؤال كبير وهو البحث بمسؤولية عن جواب واقعي له، وصار هاجسه الرئيسي: كيف له أن يعرف الوسط العربي بحقيقة القضية الكردية؟ 

فكان اختباره الأول هو لقاؤه بالرئيس جمال عبد الناصر، ونجاحه في التأثير على موقفه من القضية الكردية وكسب تأييده، وذلك من خلال المذكرة التي قدمها إلى مباحثات الوحدة الثلاثية في القاهرة بتاريخ (٨/٤/١٩٦٣)، وهذا ما أكده الدكتور جمال الآتاسي في مقدمته لكتاب منذر الموصللي عندما نقل عن الرئيس جمال عبد الناصر، قائلاً بأن: (الرئيس عبد الناصر كان مرتاحاً لمضمون الفكرة التي وردت في المذكرة التي قدمها جلال طالباني باسم الوفد الكردي إلى مباحثات الوحدة الثلاثية في ربيع ١٩٦٣).

لا شك بأن عدم اطلاع الوسط العربي على القضية الكردية، كان هاجساً يقلق عبد الناصر أيضاً الأمر الذي يفاقم هذه القضية ويقطع الطريق أمام حلها، وهذا القلق هو الذي دفعه حينذاك لأن ينصح مام جلال تلك النصيحة الذهبية التي ظل يعمل بها حتى آخر أيام حياته، وحول ذلك يقول مام جلال في كتابه (كردستان والحركة القومية الكردية)، ما يلي: (لا أنسى أبداً النصائح الأخوية الثمينة التى أسداها إلي الرئيس عبد الناصر فى حزيران 1963، حينما قابلته فى القاهرة..

 فقد نصحنى بتوضيح أمرين اثنين للأمة العربية: أولا- أن الحركة القومية الكردية تعادى الانفصالية ولا تريد تقطيع العراق..  ثانيا- أن الأكراد هم شعب أصيل يسكنون بلادهم كردستان منذ آلاف السنين، فهم ليسوا شعبا طارئاً، وليسوا معاديين للعرب بل إخوة لهم..).

وإدراكاً منه لأهمية نصيحة عبد الناصر، يتوجه مام جلال على الفور إلى بيروت، ويعقد هناك مؤتمراً صحفياً بتاريخ (٨/٦/١٩٦٣)، يشرح فيه هاتين النقطتين بدقة، رداً منه على حكومة بغداد آنذاك التي كانت تنشر بكثافة الدعايات والإشاعات التي تصور الحركة القومية الكردية كحركة إنفصالية شبيهة بإسرائيل..

وهكذا، فقد تمكن مام جلال من نسج خطاب موضوعي يفضح تلك الاتهامات والأضاليل المفبركة من جانب الجهات الشوفينية ضد القضية الكردية العادلة، ودأب من دون كلل أو ملل على تقديمها بصورتها الحقيقية من دون رتوش، وكان (مؤتمر الإشتراكية العربية)، في الجزائر عام (١٩٦٧)، فرصة أخرى، وكان مام جلال هو الكردي الوحيد الذي استطاع أن يحضره ممثلاً عن (الحزب الديمقراطي الكردستاني)، فقد شكل المؤتمر حينذاك منبراً سياسياً هاماً حضرته كافة الأحزاب الشيوعية والإشتراكية والبعثية، ونخبة واسعة من الشخصيات والقيادات العربية المعروفة آنذاك، قدم فيه مام جلال ثلاثة بحوث هامة حول الإشتراكية والمسألة القومية وحول المسألة الكردية في العراق، وحول هذا المؤتمر يقول مام جلال في كتاب (لقاء العمر)، 

ما يلي: (لقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها بحث هذه القضية وحق الكرد بالحكم الذاتي وتقرير المصير في بلد عربي كالجزائر ووسط مجموعة من القوى الإشتراكية العربية وبعضها تتولى الحكم في بلدانها، فقد تحدثت هناك عن أن تقرير المصير والحكم الذاتي هما الحل الأمثل للصراع العربي الكردي، وبدونهما لا يمكن حل المسألة القومية..).

وشيئاً فشيئاً تبلور هذا الخطاب في ذهن مام جلال، واختمرت في ذهنه فكرة نشر بحث علمي متكامل عن كردستان والحركة القومية الكردية يهدف إلى تعريف الوسط العربي بتاريخ كردستان وحقيقة وجود الشعب الكردي وعدالة نضال حركته التحررية، فبادر عام (١٩٧٠)، إلى تتويج بحثه هذا بإصدار كتابه (كردستان والحركة القومية الكردية)، هذا الكتاب الذي جاء استجابة فعلية للنصيحة التي أسداها إليه صديقه الرئيس جمال عبد الناصر، وتتويجاً لبحثه عن جواب موضوعي يبدد الهواجس التي تقلق القادة العرب بسبب جهلهم بحقيقة هذه القضية. 

وفي هذا المجال يقول مام جلال في مقدمة كتابه هذا: (ولهذا وطدت العزم- وأنا في القاهرة آيار عام ١٩٦٣، على بذل الجهود اللازمة لاخراج هذه الفكرة إلى حيز الوجود، فشرعت بكتابة هذا البحث كمساهمة متواضعة في تعزيز الأخوة الكفاحية بين الجماهير الشعبية الكردية والعربية، وفي توضيح الحقيقة- التي كانت دوماً نبراس نضال الشعوب- عن القضية الكردية للرأي العام العربي الذي يتوقف على تفهمه الصحيح لها- إلى حد كبير- إيجاد وتنفيذ حل تقدمي سلمي لها وكذلك مصير الوحدة الوطنية لشعبنا العراقي ومستقبل الأخوة العربية الكردية..).

لا شك بأن خطاب مام جلال الواقعي هذا، ومواقفه الموضوعية، وعلاقاته المؤثرة مع عبد الناصر هي التي جعلت منه شخصية متألقة في الوسط العربي، وموضع اهتمام معظم القادة العرب، وفي مقدمتهم الرئيس السوري (حافظ الأسد)، فقد جذب مام جلال اهتمام الأسد منذ أن كان ضابطاً برتبة مقدم، وسره خبر لقائه آنذاك مع الزعيم العربي عبد الناصر، فقد تلمس حافظ الأسد، وكما يقول سالار أوسي في كتابه (جلال طالباني: أحداث ومواقف): (لقد تلمس حافظ الأسد هذه الحقيقة في شخصية جلال طالباني خلال لقائه معه عام ١٩٧٠، وأدرك أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه طالباني في المعارضة العراقية، ومدى فاعليته في الخارطة السياسية العراقية المستقبلية، علماً أن طالباني حينها لم يكن يمثل أي! تنظيم سياسي، وإنما كانت له سمعته السياسية ونشاطه السياسي الفردي وحسب..).

ومن جهته استطاع مام جلال أن يقرأ بدقة واقع العلاقات بين النظامين السوري والعراقي، وعمق التناقضات التي كانت تفصل بين جناحي حزب البعث في هذين البلدين، وصار يسعى كل جهده لبناء علاقة استراتيجية مع حافظ الأسد الذي بات يطرح نفسه زعيماً لجبهة (الصمود والتصدي)، ويسعى إلى ملء الفراغ الذي تركه رحيل الزعيم (عبد الناصر)، في الساحة العربية في مواجهة عدوه اللدود (صدام حسين)، هذا دون أن يغيب عن مام جلال البعد الطائفي والقومي للرئيس حافظ الأسد والذي جعله أكثر انفتاحاً من غيره من البعثيين، حيث قال مام جلال في كتاب (لقاء العمر): (وبحكم كونه أحد أفراد الطائفة العلویة المظلومة، كان عقله أكثر انفتاحا من رفاقه البعثیین، فلو لم یكن ھو على رأس السلطة، وكانت السلطة بید الشوفینیین العرب لما سمحوا للحظة أية حركة أو منظمة بأن تتأسس أو تعمل أو أن تقوم بنشاطاتها باسم الكرد..).
اقرأ المزيد

الديمقراطية، مصطلح يوناني قديم ، من أبسط دلالاتها تعني (سلطة) أو (حكم) الشعب. وتعد الانتخابات ركيزة أساسية لأي عملية ديمقراطية، لأنه عن طريق هذه الممارسة يستطيع المواطن أن يقرر مصيره ويشعر بالمساواة والحرية الكاملة. لكن الديمقراطية عندنا لم تعد تحير عقولنا فحسب، بل حيرت عقول جميع المتخصصين وحتى اللغويين بهذا المجال، وهي تتعارض مع المفهوم المعتمد في القاموس اليوناني كمصطلح سياسي.

صحيح أن هناك أساليب وطرق مختلفة لممارسة الديمقراطية وتطبيقها، لكن الديمقراطية التي نعتمدها نحن الكرد هي نوع آخر لامثيل له في أي بقعة بالعالم، وقد يكون هذا سببا لعدم ادراج تجربتنا الديمقراطية ضمن الأنواع المألوفة من ديمقراطيات العالم. فديمقراطتنا تعني لي الأذرع والضرب تحت الحزام.

ولا أدري لماذا تستعجلنا البعثات الدبلوماسية والأطراف الدولية على إجراء إنتخابات عاجلة من دون النظر إلى حساسية وتأزم الأوضاع الداخلية وما تعترض هذه العملية من معوقات وعقبات لاتسمح أبدا بإجراء إنتخابات نزيهة حرة وحقيقية يعبر فيها المواطنون عن آمالهم وتطلعاتهم؟!. ولماذا لا يرى هؤلاء ولا يسمعون ما يجري في كردستان حاليا وهم يعتبرون أنفسهم أبا للديمقراطية، كيف وبأي أسلوب غير قانوني تم تفعيل مفوضية الإنتخابات المنتهية صلاحيتها في كردستان وبهذا الشكل المزري؟. وكيف تناقلت وسائل الاعلام وقائع الجلسة الصاخبة لبرلمان كردستان والتي شهدت مشاجرات وملاكمات بالأيدي لفرض إرادة حزب على الجلسة وتمرير قرار التفعيل من دون جميع الكتل البرلمانية الأخرى بل وحتى الضغط على مجلس القضاء لقبول هذا القرار؟!.

والأهم أنه جرى ذلك في وقت مازالت تعديلات قانون الإنتخابات موضوعة فوق الرفوف تعلوها الغبار دون أن يتحرك أحد لطرحها على جدول الأعمال ، ناهيك عن الامتناع من تنظيف سجلات الناخبين ” العلوجية ” التي تتعارض أرقامها كلية مع حقيقة النسبة السكانية الحالية ، وكذلك الإبقاء على مشكلة المكونات من دون حل.

ثم كيف ولماذا يجب أن يبقى الفرق بين سجل الناخبين المعتمد في مفوضية الإنتخابات العراقية مع مفوضية الإقليم بحيث تصل تلك الفروقات في أعداد الناخبين حسب بعض الخبراء إلى حدود زيادة نصف مليون ناخب في سجلات الإقليم، مع تأكيد هؤلاء الخبراء بأن النسبة المضافة إلى سجل الناخبين تتركز جميعها في محافظتي أربيل ودهوك في حين أن النسبة خفضت في محافظة السليمانية بحدود 60 ألف ناخب؟!. أليست هذه الأحصائيات بحد ذاتها تدل على عدم وجود عدالة في إعتماد أرقام الناخبين؟ فإذا كان ثمن المقعد في البرلمان الكردستاني قد حدد بـ 35 ألف صوت، ألا يعني زيادة 561 ألف ناخب إلى سجلات مفوضية كردستان بأن 16 كرسيا ستذهب لصالح محافظتي أربيل ودهوك؟. أليست هذه قمة اللاعدالة واللاديمقراطية؟.

الغريب، أن كل من يفتح فمه اليوم يتحدث عن الديمقراطية وترسيخها وإحترام حقوق الانسان وحرياته، وليس هناك من لا يدعو كل يوم إلى ضرورة إجراء إنتخابات نزيهة ونظيفة خالية من التزوير، كما ليست هناك جهة، حزبا كان أو منظمة أو جماعة أو تحالف لايدعو إلى تغليب المصلحة الوطنية العليا ومصلحة المواطن على المصالح الأخرى، لكن للأسف قليل هؤلاء من يلتزم بهذه المباديء التي يدعو إليها، وهذا بحد ذاته ما يشوه أي عملية ديمقراطية حقيقية ينشدها المواطن في كردستان.

وفي الختام أقول لمن يصر ويضغط بإتجاه إجراء الإنتخابات تحت الضغط الدولي ليدعي أنه ديمقراطي ، أقول لهم أن ما تدعون اليه تحت غطاء الديمقراطية سوف لن تفيدكم بشيء، ولو أجريت عشرات الإنتخابات الأخرى فلن تغير النتيجة، لأن من أبسط مفاهيم الديمقراطية هو أن نكون أحرارا في تقرير مصيرنا عبر صناديق الإقتراع، عندها فقط يمكننا أن نفتخر بعملية ديمقراطية حقيقية تحقق للمواطن العدالة والمساواة وحرية التعبير .

اقرأ المزيد

ما يجب أن يقال في نهاية المقال سأقوله في بدايته، وهو: لقد أثبت إردوغان أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان". كما أثبت انتصار إردوغان أن الشعارات والمقولات القومية والعنصرية والدينية الطائفية الجوفاء كانت المؤثر في قرار الذين صوّتوا لإردوغان، ومعظمهم من الفئات الشعبية الفقيرة والمعدومة، والتي لم تعي تناقضات الحياة اليومية، ولم توليها أي اهتمام عندما قررت تأييد إردوغان، وهو السبب فيما وصلت إليه البلاد من كوارث على صعيد السياستين الداخلية والخارجية.

وحقق إردوغان في نهاية المطاف انتصاره؛ بفضل إمكانيات الدولة التي يملكها والإعلام الذي يسيطر عليه تماماً، واستطاع من خلاله تشويش سمعة كمال كليجدار أوغلو وحلفائه، ومنع الناخبين من التفكير بواقعهم المرير اقتصادياً ومالياً واجتماعياً ونفسياً وأخلاقياً.

 كما منعهم من أن يتذكروا سياساته ومواقفه المتناقضة التي لا تتفق والسلوك الاجتماعي التقليدي الإيجابي للشعب التركي. فعلى سبيل المثال، منع إردوغان أنصاره وأتباعه أن يتذكروا كيف هدّد وتوعّد حكام الإمارات ومصر والسعودية والكيان الصهيوني، ثم عاد وتوسل إليهم كي يصالحوه، كما توسل إلى الرئيس بوتين في حزيران/يونيو 2016 بعد أن أسقط الطائرة الروسية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 على الحدود السورية-التركية.

 واستغل الرئيس بوتين هذا التوسل وأقام شبكة من العلاقات الشخصية والرسمية المثيرة مع إردوغان الذي تلقى أول تهنئة من الرئيس بوتين، بعد دقائق من إعلان انتصاره فاستعجل بالاتصال هاتفياً بالرئيس الأميركي بايدن، وليس بوتين، وبعد أن هنأه رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وكانا من ألد أعداء إردوغان؛ بسبب دعمه المطلق للإخوان المسلمين وكل المجموعات والفصائل والقوى الإخوانية في مصر وليبيا وسوريا والعراق وتونس وباقي دول المنطقة.

وداخلياً، لم يتذكر الذين صوّتوا لإردوغان أنه ووزراءه كانوا جميعاً من حلفاء الداعية فتح الله غولن، مع العلم أن هناك عشرات بل مئات الصور والفيديوهات التي تثبت العلاقة الحميمة بين إردوغان ووزرائه مع غولن، الذي سرّب في كانون الأول/ديسمبر 2013 عشرات الصور والتسجيلات الصوتية والمصورة التي تثبت تورط إردوغان، ليس فقط بقضايا فساد خطيرة جداً بل أيضاً في الحرب السورية منذ بدايتها. كما لم يتذكر أحد تناقضات محاولة الانقلاب الفاشل في تموز/يوليو 2016، والذي شككت المعارضة في جديته، بعد أن استغل إردوغان هذه المحاولة فتخلص من نحو 200 ألف من أتباع غولن في الجيش والأمن والقضاء وباقي مؤسسات الدولة ومرافقها، ليحل محلهم أتباعه وأنصاره، خاصة بعد أن نجح في استفتاء نيسان/أبريل 2017 في تغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي ليصبح الحاكم المطلق للبلاد، وبدّد أي منافس ومعارض.

وهو الوضع الذي استفاد منه في حملته الانتخابية، إذ استغل جميع إمكانيات الدولة خلال هذه الحملة، من دون أن يبالي بمواقف المعارضة التي كانت تذكره بمواد الدستور والقوانين التي تفرض عليه أن يبقى على الحياد كرئيس للجمهورية، وهو ما يقسم عليه كل رئيس بعد انتخابه.

 واستنفر إردوغان ومعه كل الوزراء جميع إمكانيات الدولة لإقناع أنصاره وأتباعه وعبر وسائل الإعلام التي يسيطر عليها.

فعلى سبيل المثال، كانت مقابلاته تبث عبر 30 محطة تلفزيونية على الهواء مباشرة. وخصصت قنوات الدولة الرسمية التي يفرض عليها القانون أن تكون على الحياد 48 ساعة لإردوغان و36 دقيقة لكليجدار أوغلو للفترة الممتدة من 1 نيسان/أبريل إلى 11 أيار/مايو. كما غطت الدولة جميع مصاريف الحملة الانتخابية لإردوغان ومن معه باعتباره رئيساً للجمهورية، فيما كانت إمكانيات كليجدار أوغلو والمعارضة ضعيفة.

ومن دون أن تعني هذه المعطيات وأمثالها أن إردوغان لم يكن ناجحاً في تكتيكاته التي اكتشف من خلالها نقاط ضعف المعارضة وكليجدار أوغلو بالذات، بعد أن بعث برسائله الذكية لأتباعه وأنصاره حتى لا يصوّتوا له "لأنه علوي وخطير على الأمة والدولة التركية السنية".

 كما نجح إردوغان في تكتيك "الهجوم خير وسيلة للدفاع" عندما هاجم كليجدار أوغلو وحلفاءه واتهمهم بـ"الإرهاب والخيانة الوطنية والعمالة لأميركا والغرب والعداوة للأمة والدولة التركية" وهو الموضوع الأهم الذي أنسى الناخب التركي جوعه وكل ظروفه المعيشية الصعبة جداً.

وكان الاتهام الأهم في كل هذا هو الفيديو المفبرك الذي بثه إردوغان في كل تجمعاته الانتخابية، وقال إنه يثبت علاقة كليجدار أوغلو بقيادات حزب العمال الكردستاني الموجودة في جبال قنديل شمال العراق.

ولكن الأغرب هو أن المعارضة فشلت في التصدي لاتهامات إردوغان، والتي لعبت دوراً رئيسياً في انتصاره، إلى جانب اتهاماته الأخرى للمعارضة ومنها تناقضات "تحالف الأمة" الذي ضم 6 أحزاب، واحد منها اشتراكي ديمقراطي و5 منها يمينية محافظة ودينية لا فرق بينها وبين "العدالة والتنمية" عقائدياً، وكانت قيادتها قد انشقت عن هذا الحزب وحزب "الحركة القومية" بزعامة دولت باهشلي، حليف إردوغان الاستراتيجي.

كما فشلت المعارضة، ولا يدري أحد لماذا، في الرد على اتهامات إردوغان الذي اعترف في الماضي وأكثر من مرة وفي العديد من مقابلاته التلفزيونية بعلاقته مع حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان الموجود في السجن، وقيادات الحزب الموجودة في شمال العراق.

وهو ما كان آنذاك كافياً بالنسبة إلى دولت باهشلي لاتهام إردوغان بـ"الخيانة الوطنية والعمالة" قبل أن يتحوّل إلى حليف إردوغان في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 وكان قبل ذلك التاريخ من ألد أعداء إردوغان حاله حال كل الذين كسبهم إردوغان إلى جانبه وأياً كان الثمن سياسياً أو مادياً.

على سبيل نعمان كورتولموش (نائب رئيس العدالة والتنمية) وفاتح أربكان (زعيم حزب الرفاه الجديد) اللذين انشقا عن حزب "السعادة" الإسلامي الذي أسسه الزعيم الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان وتحوّلا بين ليلة وضحاها إلى حليفين لإردوغان.

مع التذكير أن نجم الدين أربكان كان قد قال عنه إنه "دمر الأمة والدولة التركية وباع كل ممتلكاتها للدول والقوى الإمبريالية الاستعمارية الصهيونية وصندوق النقد الدولي، وأن كل من يصوّت له إنما يصوّت لأميركا وإسرائيل" وهو ما لم يبال به نجله فاتح ومن صوّت له من الإسلاميين الأتراك، بل وحتى السوريين والآخرين ممن منحهم إردوغان الجنسية التركية.

كذلك كان سليمان صويلو من ألد أعداء إردوغان عندما كان زعيماً للحزب "الديمقراطي" قبل أن يعلن ولاءه له ليصبح وزيراً للداخلية حاله حال زعيم حزب "الهدى" الكردي الإسلامي الذي لا يعترف بهوية الجمهورية التركية (منح إردوغان الحزب 4 مقاعد وربما حقيبة وزارية)، وأعلنا ولاءهما لإردوغان حالهما حال سنان آوغان المرشح الثالث في انتخابات الرئاسة الذي حصل على 5.17% من الأصوات. ويبدو أن 2.5% منها ذهبت إلى إردوغان بعد أن أعلن آوغان تأييده له مقابل ملايين الدولارات التي قيل إن الرئيس الأذربيجاني تبرع بها لصديقه آوغان، وفق كلام وسائل الإعلام التركية.

فيما لم يذهب الباقون إلى صناديق الاقتراع، وهو ما صبّ في مصلحة إردوغان الذي كان من المتوقع له أن يخسر لو زادت نسبة التصويت عن انتخابات الجولة الأولى، لكنها تراجعت لأسباب عديدة منها فشل الحملة الانتخابية لكمال كليجدار أوغلو، والأهم زعماء الأحزاب الخمسة المتحالفة معه، وفشلوا جميعاً باستثناء تمال كاراموللا أوغلو، ابن "السعادة" الإسلامي في التأثير في أنصارهم حتى يصوّتوا بكثافة لكمال كليجدار أوغلو.

ويبقى الرهان على السياسات المحتملة للرئيس إردوغان، ويبدو واضحاً في خطابه ليلة الانتخابات، أنها لن تتغير ما دام أنه سيستعد للانتخابات البلدية في آذار/مارس القادم؛ لأنه سيسعى لاسترجاع بلديات الولايات الرئيسية الكبرى، ومنها إسطنبول وأنقرة، والتي خسرها في انتخابات آذار/مارس 2019 وصوّتت في الانتخابات أمس لكمال كليجدار أوغلو، ويعرف الجميع أن إردوغان لن يغفر لها ذلك، وسوف ينتقم منها مهما كلفه الأمر. وهو ما أثبته في الانتخابات الأخيرة، ويبدو أن المعارضة (الشعب الجمهوري) لم تستخلص الدروس الكافية منها، ومن كل الانتخابات السابقة، وأهمها استفتاء 2017 عندما تم تزوير مليوني بطاقة اقتراع، ومررت الاستفتاء ولم تحرك المعارضة آنذاك ساكناً حيال ذلك، كما لم تحرك ساكناً حيال اتهام إردوغان لها بالتحالف مع العمال الكردستاني، وهي بريئة من ذلك تماماً؛ لأن المخالف هو إردوغان الذي استضاف رئيس الاتحاد الديمقراطي الكردستاني السوري في تركيا عدة مرات، وطلب منه التمرد على الرئيس الأسد مقابل وعود بمنح الكرد كل ما يريدونه في سوريا الجديدة، كما وعد كرد تركيا بوعود مماثلة تجاهلها فيما بعد، بعد أن وعى أن الدين والمذهب والقومية هي سلاحه الأهم لضمان بقائه في السلطة إلى الأبد وبأحلام الخلافة والسلطنة العثمانية.

 

 

 

اقرأ المزيد
ماذا أقول لجدتي التي وافاها الاجل ولم يحالفها الحظ لرؤية شكل الدولار، وماذا أقول لأبي، الذي لم يوَفَقْ لملامسة صورة المحروس جورج واشنطن أو لينكولن المطبوعة على هذه الورقة الملعونة، الذي يعتقد الكثير من الناس بأن رائحتها أطيب من رائحة المسك وأفخر من روائح العطور الفرنسية، حتى وان كانت متهرئة وممزقة، كونها تجعل من يمتلكها يشعر بالقوة والثقة بالنفس وقادراً على التفكير براحة واسترخاء، كأنه خارج التغطية بالمطلق والقياس مع الفارق، وربما ستصنف هذه الورقة ذات يوم من المسكرات أو أحد العقاقير والمؤثرات العقلية، كونها اصبحت من العملات التي تحدد منسوب ارتفاع أو انخفاض طبيعة الاستقرار النفسي للمجتمعات وتؤرق تفكير الكثير من الحكومات.

الارهاب وتخريب الاقتصاد وجهان لعملة واحدة، ينبغي أن يندرجا ضمن المادة القانونية نفسها الموجودة في قانون العقوبات، ومن لا يدرك خطورة هذا الموضوع واهمية الحفاظ على مكانة العملة العراقية، فعليه أن يراجع طبيب عيون. 

الدينار سيادة واعلاء قيمته مهمة وطنية وشرعية واخلاقية، وهو بمثابة سلاح نوعي ونهر ثالث يدعم الاستقرار وإعادة الإعمار ويطوّر مشاريع التنمية المستدامة، الذي نحارب به لقطع الطريق امام المستغلين وتجار الازمات، ولا يمكن الذهاب لهذا المفهوم، إذا لم نحقق هدف رفع منسوب الوعي والمواطنة ونشر ثقافة الشعور العالي بالمسؤولية من قبل الأيادي الشعبية، تجاه اهم القضايا الوطنية المصيرية الحساسة، لكي تساهم بشكل عملي برفع قيمة الدينار، من خلال الوصول لأول الاهداف الاستراتيجية، وجعل ثقافة التعامل المالي في السوق بالعملة الوطنية فقط بدلاً من ثقافة التعامل بالدولار. 

لا بد من تضافر جميع الجهود، ومنها تبني البرلمان لمهمة الدفاع عن العملة الوطنية، من خلال ادخال مواد دستورية وتشريعات وقوانين جديدة وصارمة، تستند إليها جميع أجهزة انفاذ القانون، ولا بد من وقوف الاعلام الوطني بجميع اشكاله لتحقيق هذا الهدف النبيل والسامي الذي يدك ركائز كونكريتية في اعماق اسس اقتصاد الدولة العراقية، كمرحلة أولى للوصول إلى موضوع مكافحة الفساد، وبناء دولة المؤسسات وتحقيق تطلعات ومبادئ الحكم الرشيد، الذي له القدرة على شل حركة كل من يراهن على بقاء العراق ضمن المراتب الاولى في قائمة مؤشر مدركات الفساد.

إن عملية التمرد من قبل بعض الجهات على القوانين والانظمة، واستمرارها بتغليب الميول الشخصية فوق المصلحة الوطنية وحياة المواطن، والمساهمة بتخريب العملة العراقية والاقتصاد الوطني، تعد بمثابة اعلان حالة حرب على الشعب والدولة، ومحاولة لتقويض الجهود الرامية لتعزيز مكانة الدينار العراقي، ومنع تدهوره، كما حدث مع بعض دول في منطقة، لذلك أصبحنا اليوم جميعاً باختبار حقيقي أمام عدم تغوّل الدولار على الساحة، الذي كان له دور كبير في تنامي ظاهرة الفساد وتجارة المخدرات وتهريب النفط والجرائم الأخرى.
اقرأ المزيد
12345