الأسد خرج. لم يعد ذلك مجرد حديث في الكواليس، بل واقع سياسي فُرض على الأرض، وأُعلِن عنه بصيغة رسمية، مع إنتقال السلطة إلى رئيس جديد إسمه “أحمد الشرع”، في مشهد بدا هادئاً في ظاهره، لكنه يحمل إرتدادات قادمة في عمق الخريطة السورية.
تغيّر شكل المشهد السوري، لكن المضمون لا يزال معقّداً، ملتبساً، ومفتوحاً على إحتمالات أكبر من مجرد تغيير إسم في رأس السلطة.
لأكثر من عقد، تم إختزال الأزمة السورية بشخص بشار الأسد. في الخطاب، في الإعلام، وفي المعارك. كأنَّ المشكلة تبدأ به وتنتهي عنده. لكن اليوم، بعد أن هرب الأسد من المشهد السياسي، تتكشّف تعقيدات الواقع السوري التي ظلّت مؤجّلة لعقد من الزمن.
ولأكون صريحاً، كثيرون اعتقدوا أن خروج الأسد سيفتح الباب للحلول، لكنّ ما تكشّف حتى الآن يوحي بالعكس: أننا كنا نُقاتل صورة، بينما البُنية بقيت في مكانها.
في الشمال، قسد تطرح مشروعها السياسي بشكل مُعلَن، وتعتبره إطاراً لحل دائم قائم على اللامركزية، مدعومة بإسناد إقليمي ودولي، وتحرص على تقديم نفسها كشريك في مستقبل سوريا لا ككيان منفصل. وعلى الرغم من إتفاقها مع الحكومة السورية الجديدة على الإنخراط في المنظومة العسكرية الموحّدة، بدأت ترتفع أصوات من داخل دمشق تُهدد قسد وتتهمها بالسعي إلى الإنفصال تحت عناوين الفدرالية.
في المقابل، تركيا — التي تُعد أحد أقوى حلفاء أحمد الشرع — لا تُخفي موقفها، بل تُعلن بوضوح رفضها لأي صيغة فدرالية في سوريا، وتُواصل دعم جماعات مسلحة تنشط قرب الحدود وتقصف بين الحين والآخر مواقع حيوية، منها سد تشرين، في رسالة مفادها أن خريطة الشمال لن تُرسم بهدوء.
في الجنوب، لم يكتفِ الدروز برفع صوتهم دفاعاً عن خصوصيتهم السياسية والإجتماعية، بل دخلوا مرحلة الإشتباك المباشر مع الدولة السورية الجديدة. المواجهات التي إندلعت في جرمانا وأشرفية صحنايا لم تعد تُقرأ كمجرد توترات أمنية، بل باتت تعبيراً واضحاً عن تصدّع داخلي في مشهد ما بعد الأسد، وإنهيار توازنات كان يُعتقد أنها مستقرة.
واللافت أن إسرائيل لم تكتفِ بالمراقبة أو الدعم السياسي، بل قصفت القوات السورية الجديدة أكثر من مرة خلال هذه الإشتباكات، في مؤشّر على دخول الصراع مرحلة حساسة تتجاوز الداخل السوري، وتُعيد الجنوب إلى واجهة التصعيد الإقليمي من جديد.
وما يُقلق في كل هذا، أن الرسائل لا تُوجَّه لطرف واحد، بل توزَّع على أطراف عديدة، وكأن الجميع يقرأ نهاية مختلفة لنفس القصة.
وفي خضم هذه المواجهات، تداولت مصادر ميدانية وصحفية صوراً لعناصر من القوات الأمنية التي شاركت في قتال الشوارع ضد المسلحين الدروز في جرمانا وأشرفية صحنايا، وقد ظهرت على أذرع بعضهم شارة تعود لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش، تحديداً على الذراع الأيسر.
الصورة لم تُنكر رسمياً، ولم تُعلّق عليها الحكومة الجديدة، لكن مجرد إنتشارها في هذا التوقيت فتح باباً واسعاً للتساؤلات: هل نحن أمام إختراق داخل أجهزة الدولة؟ أم أمام رسائل مرمّزة من قوى ظلت حاضرة تحت الرماد؟
في كلتا الحالتين، بدا أن ما بعد الأسد ليس أكثر إستقراراً… بل أكثر غموضاً.
في الساحل، العلويون، الذين دفعوا ثمناً باهظاً في سنوات الحرب، لم يعودوا طرفاً صامتاً، بل بدأوا يُطالبون بضمانات تحفظ وجودهم وموقعهم.
وبين كل هذه القوى، تظهر طوائف ومناطق جديدة على الخريطة، لم تكن في المشهد السياسي سابقاً، لكنها ترى أن لحظة ما بعد الأسد، لحظة مناسبة للمطالبة بالتمثيل، أو حتى بالإستقلال في القرار.
في ظل هذه التحولات، تبدو سوريا مُقبلة على مرحلة تُعاد فيها صياغة النفوذ، والهوية، ومركز القرار.
لم يعد السؤال: من يحكم دمشق؟
بل: من يتحدث بإسم سوريا؟
ومن يملك مفاتيح وحدتها؟
ومن يُمسك بخيوطها في ظل هذا التعدد والتداخل؟
من إستطاع أن يُبعد الأسد، إن أراد فعلاً إستعادة سوريا، عليه أن يتعامل مع واقع جديد يتشكل على الأرض: قوى أمر واقع، ومشاريع متنافسة، وخطابات لم تعد تنطلق من دمشق وحدها.
المشهد لم ينتهِ بخروج الأسد، بل بدأ صراع التعريفات: من هو صاحب الشرعية؟ من يُمثل الدولة؟ ومن يتحدث بإسم الشعب؟
إنها ليست معركة مقعد شاغر، بل معركة سرديات متناقضة، ومشاريع مُتزاحمة، وذاكرة مثقلة بالدم والإنقسام.
في سوريا ما بعد الأسد، لا تُكافأ النوايا، بل تُختبر القدرة على قراءة الخريطة الجديدة… والتعامل معها دون أوهام.
وليس من عادة الخرائط أن تُهدي نفسها لأحد.
أنا خاون القرداغي، منذ أكثر من عقدين وأنا أُجري الحوارات مع السياسيين العرب والكورد، باللغتين العربية والكردية، أستمع لما يقولونه، وأقرأ ما لا يقولونه. واليوم… سوريا تقول الكثير، لكن بلغات مختلفة.