موازنات فوق الانفجارية والتعليم يتراجع!
علي قاسم الكعبي
١٦ أكتوبر ٢٠٢٣
علي قاسم الكعبي
١٦ أكتوبر ٢٠٢٣
الأسد خرج. لم يعد ذلك مجرد حديث في الكواليس، بل واقع سياسي فُرض على الأرض، وأُعلِن عنه بصيغة رسمية، مع إنتقال السلطة إلى رئيس جديد إسمه “أحمد الشرع”، في مشهد بدا هادئاً في ظاهره، لكنه يحمل إرتدادات قادمة في عمق الخريطة السورية.
تغيّر شكل المشهد السوري، لكن المضمون لا يزال معقّداً، ملتبساً، ومفتوحاً على إحتمالات أكبر من مجرد تغيير إسم في رأس السلطة.
لأكثر من عقد، تم إختزال الأزمة السورية بشخص بشار الأسد. في الخطاب، في الإعلام، وفي المعارك. كأنَّ المشكلة تبدأ به وتنتهي عنده. لكن اليوم، بعد أن هرب الأسد من المشهد السياسي، تتكشّف تعقيدات الواقع السوري التي ظلّت مؤجّلة لعقد من الزمن.
ولأكون صريحاً، كثيرون اعتقدوا أن خروج الأسد سيفتح الباب للحلول، لكنّ ما تكشّف حتى الآن يوحي بالعكس: أننا كنا نُقاتل صورة، بينما البُنية بقيت في مكانها.
في الشمال، قسد تطرح مشروعها السياسي بشكل مُعلَن، وتعتبره إطاراً لحل دائم قائم على اللامركزية، مدعومة بإسناد إقليمي ودولي، وتحرص على تقديم نفسها كشريك في مستقبل سوريا لا ككيان منفصل. وعلى الرغم من إتفاقها مع الحكومة السورية الجديدة على الإنخراط في المنظومة العسكرية الموحّدة، بدأت ترتفع أصوات من داخل دمشق تُهدد قسد وتتهمها بالسعي إلى الإنفصال تحت عناوين الفدرالية.
في المقابل، تركيا — التي تُعد أحد أقوى حلفاء أحمد الشرع — لا تُخفي موقفها، بل تُعلن بوضوح رفضها لأي صيغة فدرالية في سوريا، وتُواصل دعم جماعات مسلحة تنشط قرب الحدود وتقصف بين الحين والآخر مواقع حيوية، منها سد تشرين، في رسالة مفادها أن خريطة الشمال لن تُرسم بهدوء.
في الجنوب، لم يكتفِ الدروز برفع صوتهم دفاعاً عن خصوصيتهم السياسية والإجتماعية، بل دخلوا مرحلة الإشتباك المباشر مع الدولة السورية الجديدة. المواجهات التي إندلعت في جرمانا وأشرفية صحنايا لم تعد تُقرأ كمجرد توترات أمنية، بل باتت تعبيراً واضحاً عن تصدّع داخلي في مشهد ما بعد الأسد، وإنهيار توازنات كان يُعتقد أنها مستقرة.
واللافت أن إسرائيل لم تكتفِ بالمراقبة أو الدعم السياسي، بل قصفت القوات السورية الجديدة أكثر من مرة خلال هذه الإشتباكات، في مؤشّر على دخول الصراع مرحلة حساسة تتجاوز الداخل السوري، وتُعيد الجنوب إلى واجهة التصعيد الإقليمي من جديد.
وما يُقلق في كل هذا، أن الرسائل لا تُوجَّه لطرف واحد، بل توزَّع على أطراف عديدة، وكأن الجميع يقرأ نهاية مختلفة لنفس القصة.
وفي خضم هذه المواجهات، تداولت مصادر ميدانية وصحفية صوراً لعناصر من القوات الأمنية التي شاركت في قتال الشوارع ضد المسلحين الدروز في جرمانا وأشرفية صحنايا، وقد ظهرت على أذرع بعضهم شارة تعود لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش، تحديداً على الذراع الأيسر.
الصورة لم تُنكر رسمياً، ولم تُعلّق عليها الحكومة الجديدة، لكن مجرد إنتشارها في هذا التوقيت فتح باباً واسعاً للتساؤلات: هل نحن أمام إختراق داخل أجهزة الدولة؟ أم أمام رسائل مرمّزة من قوى ظلت حاضرة تحت الرماد؟
في كلتا الحالتين، بدا أن ما بعد الأسد ليس أكثر إستقراراً… بل أكثر غموضاً.
في الساحل، العلويون، الذين دفعوا ثمناً باهظاً في سنوات الحرب، لم يعودوا طرفاً صامتاً، بل بدأوا يُطالبون بضمانات تحفظ وجودهم وموقعهم.
وبين كل هذه القوى، تظهر طوائف ومناطق جديدة على الخريطة، لم تكن في المشهد السياسي سابقاً، لكنها ترى أن لحظة ما بعد الأسد، لحظة مناسبة للمطالبة بالتمثيل، أو حتى بالإستقلال في القرار.
في ظل هذه التحولات، تبدو سوريا مُقبلة على مرحلة تُعاد فيها صياغة النفوذ، والهوية، ومركز القرار.
لم يعد السؤال: من يحكم دمشق؟
بل: من يتحدث بإسم سوريا؟
ومن يملك مفاتيح وحدتها؟
ومن يُمسك بخيوطها في ظل هذا التعدد والتداخل؟
من إستطاع أن يُبعد الأسد، إن أراد فعلاً إستعادة سوريا، عليه أن يتعامل مع واقع جديد يتشكل على الأرض: قوى أمر واقع، ومشاريع متنافسة، وخطابات لم تعد تنطلق من دمشق وحدها.
المشهد لم ينتهِ بخروج الأسد، بل بدأ صراع التعريفات: من هو صاحب الشرعية؟ من يُمثل الدولة؟ ومن يتحدث بإسم الشعب؟
إنها ليست معركة مقعد شاغر، بل معركة سرديات متناقضة، ومشاريع مُتزاحمة، وذاكرة مثقلة بالدم والإنقسام.
في سوريا ما بعد الأسد، لا تُكافأ النوايا، بل تُختبر القدرة على قراءة الخريطة الجديدة… والتعامل معها دون أوهام.
وليس من عادة الخرائط أن تُهدي نفسها لأحد.
أنا خاون القرداغي، منذ أكثر من عقدين وأنا أُجري الحوارات مع السياسيين العرب والكورد، باللغتين العربية والكردية، أستمع لما يقولونه، وأقرأ ما لا يقولونه. واليوم… سوريا تقول الكثير، لكن بلغات مختلفة.
تحولت وسائل الاعلام الرسمي العراقي الى مجرد مؤسسات دعاية لرئيس مجلس الوزراء محمد السوداني، وتتزايد شكاوى وانتقادات أصحاب الرأي والكتاب من هيمنة اتجاه واحد على اعلام الدولة الذي تمثله شبكة الاعلام العراقي (قنوات العراقية، جريدة الصباح، وكالة الانباء....) بضغط من السوداني وحاشيته الذين لا يطيقون سماع أي صوت غير صوتي التطبيل والتزمير للمنجزات الوهمية.
لم يحدث منذ عام 2003 ان تعرض الاعلام العراقي، الرسمي وغير الرسمي الى حالة من الاستغلال الحكومي والمطاردة والقمع والاسكات والشراء كما يحدث اليوم، ويتجاهل السوداني وحاشيته ان الاعلام الرسمي هو اعلام الدولة وليس اعلام مجلس الوزراء، واعلام الدولة مكلف بالتغطية المتوازنة والعادلة لنشاطات الدولة وكذلك فسح المجال للأصوات الناقدة والمعارضة مادامت تتحرك ضمن الدستور والقوانين واللياقة الإعلامية، ويمنح مساحة كبيرة للمواطن لعرض مطالبه وانتقاداته واعتراضاته، لأن اعلام الدولة ممول من المال العام ويخضع لسلطة مجلس النواب.
لقد استحوذ السوداني على شبكة الاعلام العراقية بطرق غير دستورية ولا قانونية، ابتداء من تشكيل مجلس أمناء للشبكة بدون عرضه للتصويت في البرلمان ثم فرض لون معين من التوجهات واقصاء شخصيات وتوجهات بدرجة دفعت المواطن الى النفور من الاعلام الرسمي والبحث عن بدائل وهو ما يتسبب بهدر المال العام نتيجة الإدارة غير المهنية، وتضييع فرص التواصل بين مؤسسات الدولة والمواطنين وكذلك تقديم صورة جيدة عن النظام السياسي العراقي الذي يسمح لجميع الأصوات بالظهور في الاعلام الرسمي بما يحقق أفضل صور التنوع والتعددية.
ان استيلاء السوداني على الاعلام الرسمي يعيد الى الاذهان صورة الاعلام البعثي الصدامي الذي تتصدر فيه صورة المسؤول واخباره صفحات الجرائد ونشرات الاخبار، وهو نموذج سيء يؤدي غالبا الى نتائج عكسية ومردودات سلبية ليس فقط على الحاكم وانما على موقف الشعب من الدولة ككل بعدما يصل الشعب الى قناعة ان الدولة مختزلة بشخص واحد لا يحقق نتائج جيدة في العمل ولا يتخذ القرارات الصائبة ومع ذلك يريد اقناع المواطنين بأن كل شيء بخير، حتى يندفع المطبلون وراءه الى تزييف الحقائق والعبث حتى بالسياقات المهنية لتحرير الخبر من اجل تضخيم كل ماهو صغير وبهرجة كل ما هو عادي ليتحول الكلام بديلا عن الأفعال والعمل الحقيقي.
لقد أفرغ السوداني شبكة الاعلام من دورها ومضمونها وسلبها ارادتها وافقدها جمهورها وهو يسعى اليوم بشتى الطرق للاستيلاء على الاعلام الخاص عبر الترغيب والتمويل واسكات وملاحقة المعترضين والمنتقدين وهذا دليل على الدكتاتورية والتفرد والنرجسية وحب الذات، وهي كلها صفات لا تنسجم مع النظام الديمقراطي ولا تليق بالحياة المعاصرة، ولذلك يجب إيقاف هذا المنهج التدميري لحرية التعبير.
منذ عام 2005، دخل العراق مرحلة جديدة بعد سنوات طويلة من الحروب والعقوبات والعزلة. كانت الانتخابات الأولى مشهداً استثنائياً: أصابع ملوّنة بالحبر، وجوه تملؤها الآمال، وشعور ثقيل بأن العراق يقف على أعتاب ولادة جديدة. كان التصويت آنذاك أكثر من مجرد إجراء ديمقراطي، كان إعلان حياة بعد الموت، وخطوة نحو استعادة الوطن من ركام الألم.
لكن السنوات اللاحقة أثبتت أن الانتخابات وحدها لا تكفي لتغيير مصير بلد معقد كالعراق. رغم تعاقب أربع دورات انتخابية، ورغم تغيّر الوجوه وتبدل التحالفات، إلا أن البنية العميقة للسلطة بقيت كما هي: شبكة مصالح متداخلة، محاصصة طائفية، وفساد مستشرٍ تحوّل مع الزمن إلى ثقافة أكثر منه حالة طارئة. الوجوه تغيرت مرات، الأحزاب انقسمت وتحالفت وانشقت، لكن نمط إدارة الدولة ظلَّ حبيس المحاصصة لا المحاسبة، ورد الفعل لا التخطيط، والمصالح الضيقة لا المصالح الوطنية.
من 2005 حتى اليوم، لم يحدث تغيير جوهري في طبيعة العلاقة بين المواطن والدولة. بقيت الدولة بالنسبة للكثيرين مصدر وظائف وخدمات مشروطة بالولاءات، لا عقداً اجتماعياً يقوم على الحقوق والواجبات. بقي المواطن يشعر أنه متلقٍ للوعود لا صانع للقرار، مستهلكاً للسلطة لا شريكاً فيها. التعليم لم يتحسن بالشكل المطلوب، الاقتصاد ظل يعتمد على النفط بشكل مقلق، والقضاء لم يتمكن من فرض هيبته الكاملة على الحياة السياسية.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن شيئاً ما تغيّر في الوعي العام. صبر الناس على الواقع لم يعد كما كان، وحدّة النقد في الشارع العراقي أصبحت أعلى وأكثر وعياً. الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت بغداد ومدن الجنوب كانت إشارة على أن جيلًا جديدًا وُلد من رحم الخيبة، جيل لم يعش طويلاً في ظل الخوف مثلما عاش الآباء. جيل صار يعرف أن صناديق الاقتراع لا تكفي إذا لم تكن مصحوبة بثقافة محاسبة مستمرة، وبقناعة بأن الديمقراطية الحقيقية لا تبدأ ولا تنتهي بيوم التصويت، بل تمتد إلى كل يوم يعيش فيه المواطن حرّاً وكريماً.
التغيير الذي حدث في العراق منذ 2005 لم يكن بالسرعة ولا بالعمق الذي حلم به الناس، لكنه مع ذلك وضع بذرة الوعي الأولي الذي يكبر مع كل خيبة، ومع كل جولة انتخابية لم تحقق المأمول. العراق اليوم، رغم كل آلامه، مختلف عن عراق الأمس: أكثر وعياً بحقه، أشد رفضاً للاستغلال، وأقرب إلى الانفجار من أجل التغيير الحقيقي إذا استمر انسداد الأفق.
الطريق ما زال طويلاً، وربما مليئاً بالخيبات القادمة، لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن العراقيين باتوا يعرفون الطريق، حتى لو تأخر الوصول.
أنا خاون القرداغي، وهذا ما استنتجته بعد سنوات من مراقبة المشهد الانتخابي العراقي