موازنات فوق الانفجارية والتعليم يتراجع!
علي قاسم الكعبي
١٦ أكتوبر ٢٠٢٣
علي قاسم الكعبي
١٦ أكتوبر ٢٠٢٣
في العادة، تنشغل وسائل التواصل في العراق يوم الثاني من آب، سنويا، باستذكار حماقة صدام باجتياح دولة الكويت وما ترتب على ذلك من تداعيات خطيرة ومؤلمة قادت الى فرض حصار اقتصادي تسبب بمعاناة إنسانية كبرى استمرت 13 عشر عاما، خسر فيها العراق الكثير من إمكانياته وقدراته البشرية والمادية والأمنية وادى الى تنازلات سيادية مذلة بعد هزيمة صدام في حرب الكويت، وكان من المتوقع ان يكون استذكار هذه الحماقة أكبر هذه السنة نظرا للاهتمام الشعبي والسياسي بقضية خور عبدالله الذي تنازل صدام وعبر قرارات أممية عن حقوق العراق فيه، لكن كل ذلك لم يحدث.
لقد وضع الصداميون خطة إعلامية بسيطة تعتمد على سذاجة البعض وحسد البعض وغضب كثير من المواطنين بسبب المشاكل الخدمية من أجل حرف الاهتمام العام وتشتيت الأنظار عن يوم الكارثة التي مازال العراق يعاني من تبعاتها، اذ قامت الصفحات والحسابات التابعة لخميس الخنجر بنشر فيديو قديم لمواطن ممتعض من الهدية التي استلمها من رئاسة الجمهورية لأنها لم تكن مسدسا كما توقع او كما تربى في أحضان نظام قمعي يهدي المسدسات لمواليه وهو نهج اتبعه بعض الساسة والمسؤولين بعد عام 2003 في تقليد بائس للنظام الصدامي، وبذلك قدم الخنجر هدية كبرى للصداميين.
نشر الفيديو على نطاق واسع مدروس لتحقيق عدة أهداف، منها تغييب الاهتمام بذكرى اجتياح الكويت وقضية خور عبدالله، وكذلك التمهيد لحملة شرسة تطالب باقصاء الكرد عن منصب رئاسة الجمهورية بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، وهو هدف غير مخفي وقد أعلنه اكثر من سياسي ممن يتبنون إرث صدام في إدارة موقع الرئاسة ويحلمون بإعادة ثقافة المسدسات فهم لا يقتنعون بالهدايا الرمزية والبسيطة بل يريدون ولاء مغموسا بالقتل والدم.
المؤسف، ان بعض العراقيين الذين دعموا الفيديو كانوا يعانون أمورا كثيرة تستحق الانفعال والغضب أكثر من هدية الرئاسة البسيطة، كانوا مثلا يعيشون بلا كهرباء في ظهيرة لاهبة، وانهار القرى نضبت مياهها، وتحاصرهم النفايات، والبطالة تعرقل حياة أبنائهم، ولديهم برلمان غائب يعجز عن عقد جلسة عادية، وحكومة تفشل في تقديم موازنة وبلادهم تتعرض للانتهاكات العسكرية التركية، وعشرات المشاكل المصيرية، لكنهم فضلوا في النهاية صب غضبهم على قنينة زيت وقنينة دبس رمان والتعاطف مع شخص هو مشروع قاتل كان يتمنى الحصول على مسدس، لأنه يعرف ان هناك في بلادنا من يوزع المسدسات لأهداف انتخابية ويشجع المواطنين على قتل بعضهم البعض، ويريد من رئاسة الجمهورية الاشتراك في هذه المهزلة.
قيل إن بغداد لم تعد ترحّب بالوفود القادمة من أربيل.
لكن الحقيقة أعمق من ذلك.
فما أُغلق لم يكن مجرد بابٍ إداري، بل مساحة تفاهم كانت تُبقي العلاقة حيّة، ولو على أجهزة التنفس الاصطناعي.
منذ 2003، لم تُبْن العلاقة بين المركز والإقليم على أرض صلبة.
بل تأسست على “التفاهمات المؤقتة”، تلك التي تُكتب بالحبر السياسي وتُمحى بالماء المتقلّب للظروف.
ولم يكن هناك عقد شراكة طويل الأمد، بل تبادل مصالح مرحلي، فيه الكثير من الحذر… والقليل من الثقة.
الوفود التي اعتادت أن تطير من أربيل إلى بغداد كانت تحمل معها أكثر من ملف…
تحمل أملًا هشًّا بأن اللقاء قد يغيّر شيئًا، أو يُخفف وطأة الأزمة، أو يفتح نافذة بعد أن أُغلقت الأبواب.
لكن بغداد تغيّرت.
لم تَعُد تهتم بما يُقال خلف الطاولات، بل بما يُسلّم على الورق.
صارت تنظر للملف الكردي كما ينظر المحاسب إلى ميزانية ناقصة:
“أين الإيرادات؟ وأين توقيع الخزينة؟”
الرد غير المُعلن: “لا ترسلوا وفوداً… أرسلوا جداول.”
ولا بيانات سياسية، ولا شروحات إعلامية، بل كشوفات حساب لا تحتاج إلى مترجم سياسي.
في أربيل، لم يكن الاستياء خفياً.
فحين يلتزم الإقليم بضخ النفط، ثم لا تصله المستحقات كاملة،
وعندما تُربط الرواتب بتقارير لجنة مالية اتحادية،
ويُعامل كأن لا وجود لخصوصية أو تعقيد،
يبدأ شعور “الخسارة بدون مقابل” بالتكاثر داخل القرار الكردي.
السؤال الأهم ليس إن كانت بغداد ترفض الحوار، بل:
هل ما زالت هناك قناعة لدى الطرفين بأن هذه العلاقة تستحق أن تُنقذ؟
بغداد لا تريد مناقشة التفاصيل، بل تنفيذ القانون كما تراه هي.
وأربيل لم تعُد تملك الوقت الكافي لإعادة التفاوض في كل مرة.
النتيجة؟
رجل في دهوك ينتظر راتبه منذ شهرين،
وامرأة في السليمانية تسأل في السوق: “هل صرفوا الرواتب؟”
وفي مكان آخر، تُكتب تقارير تُقيّم الأداء المالي للإقليم وكأنه دائرة صغيرة في دولة كبيرة، لا كيانًا سياسيًا له تاريخ معقد.
لكن ما يغيب عن هذه المقاربة هو أن العلاقة بين أربيل وبغداد لم تكن يوماً علاقة رقمية.
بل كانت سياسية، مشوبة بالعاطفة أحياناً، والمجاملات في أحيان أكثر.
حين يُقطع الحوار، حتى وإن كان شكليًا،
وحين يُدار ملف بهذا الحجم عن طريق البريد الإلكتروني والتواقيع فقط،
فذاك يعني أننا لم نعد في مرحلة تفاهم، بل في مرحلة فرض قواعد.
هل تقبل أربيل أن تتحول إلى تابع إداري؟
وهل تفهم بغداد أن الفيدرالية ليست ملفًا ماليًا بل فلسفة حُكم؟
هذا ليس صراع أرقام، بل صراع على طريقة فهم الدولة.
والخطر الأكبر ليس في تأخر الرواتب، بل في فقدان الثقة…
لأن الرواتب قد تُصرف لاحقاً، لكن الثقة حين تُفقد لا تُسترد بسهولة.
الوفود كانت تحاول أن تُبقي الخيط ممدودًا،
حتى لو كان واهنًا.
واليوم، قُطع الخيط.
فمَن سيعيد وصله؟
ومَن يملك المفتاح الجديد… إن كان المفتاح قد فُقد بالفعل؟
أنا خاون القرداغي، أجريت الحوارات عندما كانت الأبواب مفتوحة، وأحلّل الآن حين أُغلقت وبدأت تُدار الملفات من خلف الزجاج المعتم للعقل المركزي
في خطوة عكست ثقل العراق السياسي والبيئي، شارك فخامة رئيس الجمهورية الدكتور عبداللطيف جمال رشيد في مؤتمر الأمم المتحدة الثالث للمحيطات، المنعقد في مدينة نيس الفرنسية، ليضع العراق في صدارة الدول الساعية إلى بناء شراكات دولية لمواجهة التغير المناخي وأزمات المياه والبيئة.
ورغم بعض الانتقادات السطحية التي طالت المشاركة بحجة أن العراق لا يملك سواحل بحرية، جاءت كلمة الرئيس لتؤكد عكس ذلك وأن أصدق الأقوال ما صدّقته الأفعال، وأن العراق المعني مباشرةً بأزمة المياه والتصحر، يمتلك رؤية بيئية ناضجة، وخبرة فنية تؤهله للعب دور ريادي في رسم السياسات الدولية لحماية البيئة والمناخ.
الرئيس العراقي لم يذهب إلى نيس بصفة بروتوكولية شكلية، بل حمل معه خلفيته العميقة في قضايا المياه والموارد الطبيعية، وتجربته الطويلة التي تتجاوز حدود العراق، ليُصيغ خطابا عقلانيا حازما، يُعلي من شأن الشراكة الدولية ويضع العراق في قلب الرؤية الكونية للمياه والمناخ.
لقد أكد الدكتور عبداللطيف رشيد في كلمته امام المؤتمر أن الموارد المائية – بما فيها المحيطات – لم تعد مجرد ملف بيئي، بل قضية إنسانية وأمنية وتنموية ومشددا على أن أمن المحيطات بات مسألة أمن دولي، تمسّ حتى الدول غير الساحلية، بسبب ارتباطها بمسارات التلوث والتغير المناخي وارتفاع درجات حرارة المياه وتفاقم ظاهرة تحمض المحيطات.
لقد أشار رئيس الجمهورية إلى أن العراق يعاني من انحسار كبير في المياه بسبب التغير المناخي وعدم وجود سياسات إدارية عادلة للأنهار العابرة للحدود، مما أدى إلى النزوح الداخلي، وتراجع مساهمة الزراعة في الناتج المحلي.
وهنا قدم فخامته مقترحا واقعيا بالدعوة إلى اتفاق عالمي لحماية المحيطات يستند إلى اتفاقية أعالي البحار، وإلى تعزيز التمويل المستدام والتكامل المؤسسي بين وزارات البيئة والمياه والاقتصاد الأزرق، إلى جانب تطوير إدارة المياه في الأحواض المشتركة والبحار المغلقة.
رجل الماء في قضايا المياه
ماينبغي ملاحظته هنا انه ليست مصادفة أن يتحدث رئيس جمهورية العراق في مؤتمر المحيطات بلغة علمية دقيقة ورؤية استراتيجية ناضجة حيث ان فخامته ليس طارئا على هذا الملف، بل يُعرف في الأوساط الأكاديمية والتنفيذية بـ”رجل الماء”، لما له من باع طويل في إدارة ملف الموارد المائية على الصعيدين الوطني والدولي.
الدكتور عبداللطيف رشيد يحمل درجة الدكتوراه في الهندسة من جامعة مانشستر البريطانية، وتولى مناصب هندسية واستشارية بارزة في مجال المياه والري والسدود. وهو مؤسس وعضو ناشط في عدد من الهيئات الدولية المتخصصة في إدارة المياه العابرة للحدود، وقد عمل لسنوات ضمن منظمات أممية ومنظمات غير حكومية متخصصة في التنمية والبيئة.
صوت علمي مسؤول
خلال توليه وزارة الموارد المائية في العراق لسنوات حرجة (2003–2010)، وضع أسسا لسياسات مائية وطنية، وشارك في مفاوضات استراتيجية مع دول الجوار، كما أشرف على مشاريع كبرى لصيانة وتحسين البنية التحتية المائية وله كتب وأبحاث علمية منشورة في موضوعات المياه، التغير المناخي، إدارة الأحواض النهرية، واستخدام التكنولوجيا في الري الحديث.
هذه الخلفية العلمية والميدانية هي ما جعلت مشاركته في مؤتمر نيس ذات صدقية خاصة، وأضفت على خطابه وزنا نوعيا، دفع العديد من المراقبين الدوليين إلى اعتباره صوتا علميا مسؤولا وسط الخطابات السياسية العامة.
انطلاقا من هذه الحقائق يمكن القول ان مشاركة العراق كانت اثبات بأن لدى هذا البلد رؤية مهمة وفعالة، تنبع من معاناة واقعية وخبرة تقنية عميقة، وأنه شريك مسؤول في الجهد العالمي لمواجهة التحديات البيئية الكبرى وان حضور فخامة الرئيس دليل على ان مشاركة العراق ليست مجرد حضور رمزي في محفل دولي، بل هي مبعث فخر لكل من يدرك أن قضايا المياه والمناخ لم تعد محصورة بجغرافيا البحار والمحيطات، بل تشمل مصائر الشعوب ومستقبلها.
لقد أثبتت طروحات فخامة رئيس الجمهورية، أن للعراق رؤية ناضجة وفعّالة في إدارة الملف البيئي والمائي على المستويين الإقليمي والدولي، وأنه قادر على الإسهام في صياغة حلول شاملة لقضايا تمسّ الإنسانية بأسرها وكلمة فخامته لم تكتفِ بتشخيص التحديات، بل قدّمت مبادرات واقعية وخطوات مقترحة لتعزيز التعاون العالمي، وبناء شراكات بيئية واقتصادية متعددة الأطراف، تعكس إيمان العراق العميق بأهمية التضامن الدولي.
ومن نيس، وجه العراق رسالة واضحة للعالم: لسنا مجرد ضحايا للتغير المناخي، بل شركاء في مواجهته، وفي بناء مستقبل آمن بيئيًا وإنسانيًا.
كلمة العراق في مؤتمر نيس لم تكن دفاعا عن الحضور، بل دليلاً على الفعل السياسي البيئي المسؤول، ورسالة إلى المجتمع الدولي أن العراق يريد أن يكون شريكا حقيقيا في رسم سياسات الكوكب البيئية، وأن النهج التشاركي الذي دعا إليه الرئيس العراقي، يعكس نضجا سياسيا واخلاقيا لا بد أن يُحتذى.